الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 36 - نصر مؤتة - 10


الدليل الرابع: غنم المسلمون غنائم عدة من مؤتة، ولا يغنم إلا الجيش المنتصر، بل إنهم غنموا ممتلكات بعض كبار القادة الرومانيين، فبعض المسلمين قتلوا بعض قادة الرومان وأخذوا أسلابهم، روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه و أبو داود و أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وانظر إلى كلام عوف بن مالك الذي يقول: إن أحد المسلمين قتل رومياً يحمل سلاحاً مذهباً، ويركب فرساً عليه سرج مذهب. فهذه غنيمة عظيمة، ولا يحمل الذهب في المعارك إلا القادة الكبار وليس عامة الجند.

الدليل الخامس: لم نسمع بعد هذه الغزوة عن شماتة شعرية من شعراء قريش أو من عرب الشمال، فهؤلاء لا يتركون مثل هذه الأحداث أبداً تمر دون قصائد شعرية، لو هزم المسلمون لما تركهم أعداؤهم بأشعارهم أبداً، لكن ما سمعنا هذا الكلام، بل العكس، سمعنا فخراً من المسلمين على لسان كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه و حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه في موقعة مؤتة، وهذا لا يأتي إلا بالنصر.


الدليل السادس: تركت هذه الموقعة أثراً إيجابياً هائلاً على عرب الجزيرة، وخاصة أهل المناطق الشمالية، ورأينا بعد هذه الموقعة وفود القبائل التي طالما عاندت الإسلام والمسلمين تأتي مذعنة إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كانت هناك هزيمة لما فعلوا ذلك، ولو كانت تعادلاً لانتظروا رد فعل الرومان، ولكن مسارعة هؤلاء تنبئ عن شعورهم بالرهبة والجلال من هذه الدولة التي وقف جيشها هذه الوقفة أمام جحافل الروم والعرب المتنصرة، ولو كانت الغلبة للرومان وللقبائل المتحالفة معها في هذه الموقعة، لكان التسابق لطلب ود الرومان وغسان هو الغالب، ولكن ذلك لم يحدث.

لقد حدث أمر غريب جداً بعد مؤتة، وهو من القبائل التي أتت المدينة قبائل غطفان، وفي الدرس السابق تكلمنا عن غطفان وحرب غطفان للمسلمين، وبعد هذا كله أتت غطفان إلى المدينة لتبايع على الإسلام، وكذلك أتت بنو سليم وأشجع وذبيان وفزارة وغيرها، كل هؤلاء أتوا يبايعون على الإسلام، واشتركوا بعد ذلك في فتح مكة، وغير ممكن بعد الهزيمة أن يحصل هذا الشيء.

أما ما قيل في استقبال الجيش بكلمة: (يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟) فهذه الرواية سندها ضعيف، وحتى لو صحت فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه في هذه الرواية يدافع عن الصحابة ويقول: (ليسوا بالفرار، بل هم الكرار إن شاء الله) هذا إن صحت الرواية. وفي رواية ثانية أيضاً فيها ضعف أن مجموعة صغيرة من المسلمين فرت إلى المدينة المنورة، وحتى هذه الرواية فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام عذر هذه الطائفة وقال: (أنا فئة لهم) يعني: هؤلاء انحازوا إلى فئة شرعية في المدينة المنورة، فهذا أمر ليس فيه خطأ شرعي إن صحت الرواية أيضاً.

إذاً: كانت موقعة مؤتة انتصاراً بكل المقاييس، كانت انتصاراً للإنسان على نفسه، يرغم نفسه على خوض غمار المصاعب والمشاق، بل والموت دون تردد، كانت انتصاراً على الدولة الرومانية في أول لقاء بينها وبين المسلمين، وستكون بداية سلسلة من الحروب، كانت فيها اليد العليا للمسلمين، كانت انتصاراً على القبائل العربية الشمالية التي سارعت بعد عام من هذه الأحداث بالدخول في دين الإسلام، بعد أن رأت قوة وبأس الإسلام، كما رأت قبل ذلك حكمة وأخلاق الإسلام، وأيقنت تماماً أن هذا الدين من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

وكانت انتصاراً على كل عدو للدولة الإسلامية، حتى قريش لما رأت هذه الأحداث حارت: ماذا فعل المسلمون مع الدولة الأولى في العالم؟ فكان ذلك سبباً في هزيمة نفسية قاسية لأهل مكة، مهدت تماماً لما سيأتي بعد ذلك من فتح مكة وفتح البلاد المحيطة بها. هذه هي موقعة مؤتة، وهؤلاء هم الأمراء الشهداء الثلاثة، وهذا هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول على أعداء المسلمين، الإضافة الرائعة في الدولة الإسلامية خلال الثلاثة الأشهر السابقة، وهذا هو الجيش الإسلامي الذي يكتب له النصر، وهذا هو الدليل العملي الواقعي أن الله عز وجل ينصر من نصره، ويكون مع من جاهد في سبيله، ويدافع عن الذين آمنوا، ويمحق الذين كفروا.

نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات المؤمنين، وأن يربط على قلوب الموحدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ((فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) [غافر:44]. جزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق