الأحد، 22 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 3


فأبو سفيان لما لم يتفاوض معه الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقبل أن يرد عليه أصلاً، خرج بهذه الأزمة النفسية الكبيرة إلى أبي بكر الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن كنا نتوقع من أبي سفيان أن يعود أدراجه إلى مكة المكرمة وقد غضب غضباً شديداً وثار ثورة كبيرة، وينقلب بجيشه على المدينة المنورة ثأراً لكرامته، لكن كل هذا لم يحدث؛ لأنه ضعيف جداً، ويعلم أنه ضعيف أمام هذه الصلابة الإسلامية الواضحة، فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر وطلب منه نفس الكلام، لكن الصديق رضي الله عنه قال له في صرامة واضحة: ما أنا بفاعل.

يعني: لن أتوسط بينك وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج أبو سفيان من عند أبي بكر بالصدمة الثالثة. أول صدمة كانت لأبي سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، والثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالثة مع أبي بكر، ومع ذلك لم ييئس أبو سفيان واتجه إلى الوزير الثاني في الدولة الإسلامية وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليته ما فعل، فأول ما ذهب وطلب منه نفس الطلب أن يطيل المدة بينه وبين المسلمين، قال عمر بن الخطاب بمنتهى القوة: أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

انظروا إلى قوة وصلابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهذه هي الصدمة الرابعة التي أخذها أبو سفيان في المدينة المنورة، وأيضاً لم ييئس بل خرج من عند عمر بن الخطاب واتجه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسيدنا علي متزوج من السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عندهما، وكان عندهما الحسن رضي الله عنه يلعب بينهما، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً. انظروا إلى هذا الذل من أبي سفيان، ثم يقول: فاشفع لي عند محمد، فقال علي بن أبي طالب: ويحك أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.

يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام عندما سمع بخيانة بني بكر وقريش وقتلهم لرجال من خزاعة وصل إلى درجة من الغضب ما نستطيع أن نكلمه، ولا نعلم ماذا سيفعل صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الصدمة الخامسة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة رضي الله عنها وقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟


أي: أن الطفل الصغير الحسن بن علي رضي الله عنهما يخرج ليجير أبا سفيان وأهله وقومه وقريشاً، فقالت السيدة فاطمة: والله ما بلغ ابني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الصدمة السادسة، فقال أبو سفيان ليأخذ الصدمة السابعة والأخيرة وهو يخاطب علي بن أبي طالب قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، فقال: أوترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي بن أبي طالب في منتهى الوضوح: لا والله، ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك، ومع هذا الإحباط الذي أصاب أبا سفيان إلا أنه قام فعلاً في المسجد وقال: يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، فلم يقم أحد من المسلمين.

هذه سبع صدمات وضربات متتالية لأبي سفيان زعيم قريش، ولم يجد أي أمل، فكّر في الرجوع إلى مكة المكرمة، وبالفعل صعد على بعيره، وفي طريقه إلى مكة مر على سلمان و صهيب و بلال رضي الله عنهم وأرضاهم، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.

كان هذا الكلام من هؤلاء الثلاثة: سلمان و صهيب و بلال، وهؤلاء كانوا من الذين يُباعون ويُشترون، فمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهم وهم يقولون ذلك، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ أي: أن أبا بكر تأثر لأبي سفيان، وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: إن سلمان و صهيباً و بلالاً قالوا كذلك وكذا لأبي سفيان.

فماذا كان رد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم)، لم يقف صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق في رأفته ورحمته لأبي سفيان، إنما وقف مع سلمان و صهيب و بلال يقدّر موقفهم، وفي نفس الوقت يؤثر نفسياً على أبي سفيان قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؛ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر وقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي).

فالشاهد من القصة أن الموقف ليس موقف دعوة الآن، ولكنه موقف تجهيز لحرب، فالأموال والديار والحقوق المسلوبة آن لها أن ترجع، وإن كنا قد قبلنا في الحديبية أن نقر الهدنة دون عودة كامل الحقوق، فإن ذلك كان لظروف المرحلة السابقة، وتقديرنا لقوتنا وقوة عدونا في ذلك الوقت، أما الآن فالظروف قد تغيرت ولن نقبل بما قبلنا به قبل ذلك أيام الحديبية، ولهذا كان هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.

ثم عاد أبو سفيان إلى مكة وفشلت مهمته فشلاً ذريعاً وخسر أكثر مما كسب، وعندما عاد إلى مكة المكرمة ودار بينه وبين زعماء قريش الحوار قالوا له: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلّمته فوالله ما رد عليّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا، قالوا: فبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: هل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، فقال أبو سفيان: لا والله ما وجدت غير ذلك.

أي: أنه لم يكن هناك أي حل إلا أن يعمل هذا، مع أنه لن يجد فائدة، هكذا وضعت قريش في مأزق خطير، وعلمت قريش أن هناك احتمالاً كبيراً جداً لغزو مكة المكرمة، وبدأت قريش تترقب قدوم المسلمين، وهي لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فلم يعد من أعوانها إلا بنو بكر، ولم يعد أمامها إلا الانتظار، هذا هو الموقف في مكة. وهنا ننظر ما الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد عودة أبي سفيان إلى مكة المكرمة؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق