الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 36 - نصر مؤتة - 8


ومما قيل من شعره يومئذ: يا نفس إن لم تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت يعني: ما رغبت فيه من الشهادة فها هو قد جاد، وإن تفعلي كما فعل زيد و جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما هديت، وبالفعل كان قتاله شديداً وجهاده عظيماً، وطعن في صدره رضي الله عنه وأرضاه، وتلقى الدماء بيديه ودلك بها وجهه رضي الله عنه وأرضاه، وأصيب شهيداً كما في مسند أحمد وسنن النسائي و البيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه بسند صحيح. هذه روايات صحيحة في حق هذا البطل الذي شوهت صورته بهذا الأمر، وهذا لا يستقيم في حقه أبداً، وهو الذي دفع المسلمين هذا الدفع في هذه المعركة الهائلة.

سقط القادة الثلاثة شهداء؛ ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية، وأن الإمارة تكليف وليست تشريفاً أبداً، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية، وكان ثباتهم سبباً في ثبات الجيش الإسلامي، وجهادهم دفع الجيش الإسلامي لبذل كل طاقة، لا يفر الجنود إلا بفرار القادة، ولا تسقط الراية إلا بهوانها على حاملها، لكن بمؤتة ما سقطت راية المسلمين أبداً ولا في لحظة من لحظات القتال.


بعد استشهاد البطل العظيم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه حمل الراية الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البدري فهو ممن شهد بدراً، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت. أنت تحمل الراية، فقال: ما أنا بفاعل.

يعني: هناك من هو أحسن مني في هذا المجال، ثم تقدم إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه القائد المعجزة فدفع له الراية وقال له: أنت أعلم بالقتال مني، فقال خالد في تواضع وما زال عمره في الإسلام ثلاثة شهور: أنت أحق بها مني، أنت شهدت بدراً، فنادى ثابت المسلمين للاجتماع على خالد، فاجتمع الناس على خالد وأعطوه الراية. وحمل الراية خالد وجاهد جهاداً يكفر به عن العشرين سنة الماضية، فهذا أول مواقفه في سبيل الله، ولا بد أن يري الله عز وجل منه بأساً وقوة وجلداً وإقداماً رضي الله عنه، قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبل، حتى يقول كما في صحيح البخاري: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.

يعني: سيف يمني عريض، تسعة أسياف كاملة تكسرت في يديه وهو يحارب الرومان، تخيل كم من البشر قتل بهذه الأسياف، ومع ذلك استمر في قتاله، كلما انكسر سيف أخذ غيره وقاتل، إنها معركة ضارية، وثبت رضي الله عنه ثباتاً عجيباً وثبت المسلمون بثبات خالد رضي الله عنه وأرضاه. واستمر القتال يوماً كاملاً، وما تراجع المسلمون لحظة، وإنما وقفوا كالسد المنيع أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية، واستمر هذا الحال حتى جاء المساء. تصور من الصباح إلى المساء في معركة واحدة ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، هذا شيء مهول، لم يكن من عادة الجيوش في ذلك الوقت أن تقاتل ليلاً؛ لأنه قد يأتي الشخص فيقتل أصحابه. فتحاجز الفريقان واستراح الرومان ليلتهم هذه، أما المسلمون فكانوا في حركة دائمة.


خطة خالد بن الوليد في تدبير أمر الجيش
في معركة مؤتة

بدأ خالد بن الوليد بتنفيذ خطة بارعة عبقرية للوصول بالجيش إلى بر الأمان، وهذه الخطة لها هدف واضح، الهدف هو إشعار الرومان أن هناك مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين؛ حتى يدخل جنود الرومان والعرب المتحالفين معهم الإحباط والخوف والذعر، فهم بصعوبة بالغة صمدوا أمام ثلاثة آلاف مجاهد في اليوم الأول، فكيف إذا جاءهم مدد؟ فماذا عمل خالد بن الوليد حتى يخيف ويرهب الجيش الروماني العربي الذي أمامه؟

أولاً: جعل الخيل أثناء الليل تجري في أرض المعركة، لتثير الغبار الكثير، فيخيل للرومان أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين في الليل.

ثانياً: غير من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، فلما رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، رأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيرت أيقنوا أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين فهبطت معنوياتهم تماماً.

ثالثاً: جعل في آخر الجيش على بعد كثير من الجيش على أحد التلال مجموعة من الجنود المسلمين منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم دور إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي المسلمين.

رابعاً: بدأ خالد بن الوليد في اليوم الثاني من المعركة يتراجع تدريجياً بجيشه إلى عمق الصحراء، فظن الرومان أن خالد بن الوليد يسحبهم ويستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، ووقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد دون أن يجرءوا على مهاجمته أو على متابعته. وبالفعل نجح مراد خالد بن الوليد وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالماً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق