الثلاثاء، 22 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-6


وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في دلك الوقت وبين أبي سفيان زعيم قريش أنا أحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه، ومن العجيب فيه اهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، وكذلك من حيث دقة الأسئلة، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك آنذاك والذي كان يكره سيدنا محمداً كراهية كبيرة جداً، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث رد فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان ، فهو حوار عجيب بكل المقاييس.


بدأ الحوار بسؤال: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان : هو فينا ذو نسب. قال هرقل : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال أبو سفيان : لا. فقال هرقل : فهل كان من آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان : لا. قال هرقل : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم. قال هرقل : أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان : بل يزيدون. قال هرقل : فهل يرتد أحداً منهم سخطة لدينه بعدما يدخل فيه؟ قال أبو سفيان : لا، لا يرتد منهم أحد. قال هرقل : فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : لا. قال هرقل : فهل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا، ثم قال: ونحن معه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.


يعني: هل سيغدر أم لا في صلح الحديبية؟ و أبو سفيان أراد أن يقول أي شيء سلبي عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن كل الإجابات ترفع من قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول أبو سفيان تعليقاً على هذه الكلمة: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.

يعني: حاولت على قدر ما أستطيع أن أطعن في رسول الله عليه الصلاة والسلام بأي شيء فلم أستطع إلا هذه الكلمة، و هرقل لم يعبأ بها، وكأنه لم يسمعها. قال هرقل : فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان : نعم. قال هرقل : فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

هو يقصد بدراً ثم أحداً. قال هرقل : ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان : يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. انتهى الاستجواب الطويل من هرقل ، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها، وكل معلومة حصل عليها. قال هرقل : سألتك: عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.

وسيبدأ هرقل يأخذ كل كلمة وكل نقطة يثبت بها لـأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله. ثم قال: وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا؛ فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.

وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. هذه هي تحليلات هرقل ، فما هي النتيجة لهذا التحليل؟ لقد كانت النتيجة خطرة فعلاً، يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم.


مستبعد أن يكون من العرب، ثم قال: فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. هذه كلمات خطيرة وعجيبة جداً من زعيم الإمبراطورية الرومانية، أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقاً، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه وجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل والرضوخ لقوله تماماً، والتواضع الشديد إلى درجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا المجلس عندما انتهى هذا الحوار دعا هرقل بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة التي جاءت مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان ومن معه، ونحن لا نعرف هل هذه أول مرة يقرأ هرقل فيها الكتاب، أو كان قد قرأه قبل ذلك وأعاد القراءة مرة أخرى؟ المهم أنه قرأ كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام أمام أبي سفيان ومن معه من العرب، وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة التي ذكرناها قبل ذلك من الرسول عليه السلام إليهم، وفيها دعوة صريحة إلى دخول الإسلام.

فما أن انتهى من القراءة حتى سمع أصواتاً عالية جداً وكثر اللغط وارتفعت الأصوات في كل مكان، وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي، فزعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين كل هؤلاء رفضوا تماماً هذه الدعوة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما حصل هذا الكلام أمر هرقل بـأبي سفيان ومن معه من التجار أن يخرجوا من القاعة. وتصور معي موقف أبي سفيان وهو يرى رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموقفه عندما رأى قناعة هرقل الذي سمع عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرة واحدة، و أبو سفيان له سنين وسنين مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن برسالته بعد، وتصور موقفه وهو يسمع رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم القوية التي وجهت إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فهذا الكلام ترك أثراً نفسياً هائلاً عند أبي سفيان حتى إنه ضرب يداً بالأخرى متعجباً وقال: لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة.

يعني: عظم أمر ابن أبي كبشة، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إنه ليخافه ملك بني الأصفر.

يعني: هذا هرقل زعيم الرومان يخشى الرسول عليه الصلاة والسلام. لا شك أن هذا الحدث سيحفر تماماً في ذهن أبي سفيان ، سيكون له بعد ذلك أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان ، وسنرى مواقف عجيبة جداً من أبي سفيان إلى أن يسلم بعد ذلك في فتح مكة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق