الجمعة، 4 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 31- صلح الحديبية-8


الهدف من صلح الحديبية


ليس الهدف من صلح الحديبية استئصال قريش، وليس الهدف عمرة عابرة في حياة المسلمين، وليس الهدف إذلال قريش بالدخول إلى مكة رغماً عن أنفها، وليس الهدف إيمان مكة وحدها.

إذاً: ما هو الهدف؟ لقد كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمق من ذلك بكثير، الهدف هو نشر دين الله عز وجل في الأرض قاطبة، حتى لو تأخر إسلام مكة عدة سنوات، مع أن مكة أحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان ينظر نظرة شمولية، وينظر في ذات الوقت نظرة واقعية للأحداث، فبعض الصحابة في ذلك الوقت لم ينظروا هذه النظرة، كان كل همهم أن يدخلوا تلك السنة إلى مكة المكرمة، كان كل همهم أن يعودوا بالمسلمين الموجودين بمكة إلى داخل المدينة المنورة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نظرته أعمق وأوسع من هذا بكثير، كان يرى كل الفوائد التي تكلمنا عليها وأكثر من هذا في داخل صلح الحديبية؛ من أجل هذا قبل صلى الله عليه وسلم بالصلح.

هنا سؤال مهم جداً ومحتاج إلى وقفه مهمة وهو: لماذا لم يستجب الرسول عليه الصلاة والسلام لرأي الصحابة مع أن الأغلبية منهم لا يريدون أن يتم الصلح بهذه الصورة؟ لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام خالف هؤلاء الصحابة؟ أين الشورى في ذلك الموقف؟ هذا شيء في منتهى الأهمية، والشورى لا تكون إلا في الأمور التي ليس فيها وحي، التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والرسول قبل ذلك أشار في أكثر من مرة أن هذا الأمر وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالرؤيا التي رآها في المدينة المنورة كانت وحياً من الله عز وجل، والناقة التي حبست من دخول مكة المكرمة وذكر صلى الله عليه وسلم أنها مأمورة، وأنه حبسها حابس الفيل،

فهذه إشارة واضحة من رب العالمين سبحانه وتعالى أنه لا يريد له أن يدخل مكة المكرمة، لذلك أخبر أصحابه أنه سيقبل بأي خطة تعظم فيها حرمات الله عز وجل، وفيها منع للقتال، ثم بعد ذلك ذكر ذلك عندما جادله صلى الله عليه وسلم كلمة توضح أن كل المعاهدة كانت بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، ذكر ذلك عندما جادله بعض الصحابة كما سيتبين إن شاء الله في الدرس القادم، قال لهم موضحاً لهم أهمية هذه المعاهدة وأنها أمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً).

إذاً: اتضح أن هناك وحي في هذه القضية، وهناك أمراً مباشراً من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البنود، فهنا لا يوجد شورى.




الفرق بين الشورى والديمقراطية


هناك فارق ضخم جداً وهائل بين الشورى وبين الديمقراطية، فالشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إذا كان هناك أمر من الله فلا خيرة للمؤمنين، لكن في الديمقراطية أي شيء موضوع للتشاور، أي شيء موضوع لاجتماع الشعب، أي شيء موضوع للأغلبية، حتى وإن أحلت الأغلبية حراماً أو حرمت حلالاً، هذا في عرف الديمقراطية مقبول، أما في عرف الإسلام فغير مقبول، هذا فارق ضخم جداً، نعم، هناك نقط تماس بين الشورى والديمقراطية يرجح رأي الشعب ورأي الأغلبية في القضايا التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الفرق الضخم الهائل أن مرجعيتنا في الشورى إلى الإسلام وإلى الكتاب والسنة، وهذا من أعظم الفوارق بين المنهجين: الشورى، والديمقراطية.

فهذا هو صلح الحديبية وهذه هي البيعة التي قال الله عز وجل في حقها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وهذه البنود التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو، وكان من أثرها أن عم الإسلام وانتشر ليس في الجزيرة العربية فقط، بل في عموم بلاد العالم، كما سنرى هذه الأمور بالتفصيل إن شاء الله رب العالمين في الدروس القادمة.

في الدرس القادم إن شاء الله سنتحدث عن موقف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من صلح الحديبية، وسنتحدث أيضاً عن بعض المواقف الحساسة جداً التي حدثت مباشرة بعد صلح الحديبية، وكيف تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتحدث عن آثار صلح الحديبية في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي الجزيرة العربية وفي غيرها، وهناك أمور كثيرة أخرى تعلقت بهذا الأمر ونتجت عنه.

ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق