الخميس، 10 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-3


موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه 
من صلح الحديبية


لقد ظل الحزن مسيطراً على عامة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد وصل الحزن ببعضهم إلى أمر لا نتخيله حقيقة، وصل إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار دار بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار يعبر عن مدى الأسى والحزن الذي كان في قلب عمر والصحابة رضي الله عنهم؛ من جراء هذا الصلح الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحوار العجيب جاء في صحيحي البخاري ومسلم.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فقلت: ألست نبي الله؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام بسعة صدر عجيبة، قال: (بلى، قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا كلام غريب جداً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل أن يعطي الدنية أبداً في دينه، لكن هكذا صرح عمر بن الخطاب بهذه الكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال صلى الله عليه وسلم كلمات واضحة جداً، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) وفي رواية: (ولن يضيعني أبداً) يعني: هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أمرني ولن أعصيه في هذا الأمر، وهذا الأمر الذي تكرهونه سترون من ورائه خيراً إن شاء الله.

ومع كل هذه التوضيحات والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عمر رضي الله عنه قال: (أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟) يعني: أنت قلت لنا: سنأتي البيت الحرام ونطوف به.

وأنا لا أعرف كيف قال سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن هذا يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر رضي الله عنه وأرضاه والصحابة أجمعون، ومع ذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام صدره وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: (بلى) يعني: أنا أخبرتك بهذا الأمر فعلاً، لكن انتبه إلى ما قال بعد، قال: (أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال عمر: لا) يعني: أنا أخبرتكم أننا سندخل مكة المكرمة معتمرين إن شاء الله، لكن ما ذكرت لكم أن هذا يكون في هذا العام، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومتطوف به).

قال هذا الكلام وهو في منتهى الثقة؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب في ظننا بعد هذه الكلمات الواضحة جداً سيترك الموضوع ويسلم الأمر لله عز وجل، وينطلق إلى المدينة المنورة، لكن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟)، فما زال يتكلم في الموضوع وبهذه الصيغة، (قال أبو بكر: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟)

فـ أبو بكر الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات انتفض وقال: (يا عمر! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره) فكلمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توافقت مع نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم مناقب الصديق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري، ثم إن الصديق يعطيه نصيحة هامة جداً وهي له ولعموم الأمة الإسلامية، قال: (فاستمسك بغرزه) يعني: أي خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم استمسك بها، تمسك بسنته، قال: (فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق) كل هذا الكلام وما زال عمر رضي الله عنه يعترض، فقال: (أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟)، رد عليه الصديق: (قال: بلى، ثم قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟) سبحان الله! نفس الكلمات: (أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوف به).

هذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان لديه يقين مرتفع جداً، وإيمان كامل بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك في مواطن كثيرة جداً من حياته، وهذه من أعظم مواطنه رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الموقف ركب الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة نزلت عليه سورة الفتح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا )) [الفتح:1]) وأول ما أنزلت عليه هذه السورة دعا عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان متأثراً جداً من هذا الحدث، دعاه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه -كما يقول عمر بن الخطاب- السورة كاملة من أول آية إلى آخر آية، وبعد أن انتهى قال عمر : (يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) هذا الصلح في حد ذاته فتح من الله عز وجل، وفي آخر الدرس إن شاء الله سنقول: لماذا سمي هذا الصلح العظيم بالفتح المبين، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم.



مواقف بعد صلح الحديبية

موقف النبي صلى الله عليه وسلم
من هجرة النساء من مكة بعد صلح الحديبية


لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بدأ يعيد ترتيب الأوراق حسب الوضع الجديد الذي تمخضت عنه هذه المعاهدة، وبمجرد وصوله صلى الله عليه وسلم وصلت بعض المؤمنات من مكة المكرمة مهاجرات إلى المدينة المنورة، وهذا أول قدوم للمسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد الصلح، ولكن هؤلاء القادمون لم يكونوا رجالاً إنما كانوا نساءً، ومع ذلك أسرعت قريش وطلبت إعادة المؤمنات المهاجرات إلى مكة المكرمة كما تقول المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف لهم وقال: إن نص المعاهدة ينص على الرجال فقط، ونص حديث البخاري يقول: (وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته علينا) 

يعني: لم يدخل النساء في القضية، والحمد لله أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ذلك الأمر عند كتابة المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يطمئن إلى إسلام هؤلاء المؤمنات اللاتي قدمن من مكة إلى المدينة، فنزلت سورة الممتحنة وفيها تفصيل لهذا الأمر، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] يعني: تأكدوا من إيمانهن، هل جئن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هرباً من أزواجهن أو طلباً لرجال المدينة المنورة أم جئن إلى المدينة المنورة مهاجرات إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟

{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] أي: بعد هذا الاختبار والامتحان تأكدتم أنهن من المؤمنات الصادقات: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، يعني: لا ينبغي أن يعدن إلى الكفار وإن كن أزواج كفار من مكة، ما ينبغي لامرأة مؤمنة أن تتزوج من رجل كافر، {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، لكن انظر لما سيأتي بعد ذلك في الآيات، فهذا بعد حضاري راق جداً في الإسلام وعدل مطلق، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: الكفار الذين هربت أزواجهم من مكة إلى المدينة المنورة دفعوا قبل ذلك مهوراً لأزواجهم من المؤمنات، والآن هربت الزوجة إلى بلاد المسلمين وما عادت تصلح أن تكون زوجة لهذا الرجل الكافر، فلا يجب أن يضيع عليه هذا المهر الذي دفعه لها، يقول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: أعيدوا إلى الكفار القدر الذي أنفقوه من المهر إليهن؛ حتى يستطيعوا به أن يتزوجوا مرة ثانية من امرأة تحل لهم.

هذا حكم عام نزل لكل المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وظل بعد ذلك حكماً إلى يوم القيامة، لا يجوز أبداً لامرأة مسلمة أن تتزوج من رجل كافر.

كذلك نزل في نفس الآيات أنه لا يجوز أيضاً لرجل مسلم أن يتزوج من امرأة كافرة، قال الله عز وجل في نفس الآيات: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، هذه الآية موجهة إلى رجال المسلمين، يعني: لو كان عندك امرأة مشركة تزوجت بها قبل أن ينزل هذا الحكم فلا بد أن تطلقها وتعيدها مرة ثانية إلى أهلها المشركين في مكة المكرمة أو غيرها، وعند نزول هذا الحكم طلق المسلمون المؤمنون نساءهم الكافرات وأعادوهن إلى أهلهن، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه طلق زوجتين من الكفار كانتا عنده وأعادهما إلى مكة المكرمة.

وبما أننا في هذا الوقت نبني مجتمعاً مسلماً خالصاً فمحال على أم كافرة أن تربي أولادها على معاني الإسلام والعقيدة الصحيحة، وكذلك محال على أب كافر أن يربي أبناءه على معاني الإسلام والعقيدة السليمة الصحيحة.

إذاً: استقر الوضع في داخل المدينة المنورة وقبل المشركون بقضية المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق