الجمعة، 4 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 31- صلح الحديبية-6


كتابة صيغة صلح الحديبية وتوثيقها


بعد أن اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح مع قريش لا بد أن توثق وتسجل في صحيفة تكون بين الدولتين يوقع عليها الطرفان، ويعترف بها في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الجلوس مع سهيل بن عمرو لكتابة الصحيفة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أمّي لا يكتب ولا يقرأ، فالذي كان يكتب المعاهدة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، والذي يملي عليه الكلمات هو رسول صلى الله عليه وسلم، وهذه إشارة قوية جداً إلى أن اليد العليا في المعاهدة للمسلمين، فهم الذين يملون المعاهدة ويكتبونها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يملي وعلي بن أبي طالب يكتب، وسهيل بن عمرو مجرد مستمع.

فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، بداية كل عمل للمسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم، فوقف سهيل واعترض، وكل اعتراضات سهيل بن عمرو شكلية، لم يعترض على كل البنود السابقة مع كل الخسائر التي خسرتها قريش لضعف قريش، وإنما هو الآن يعترض اعتراضات شكلية، ونريد أن نشاهد مرونة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال سهيل: (ما الرحمن؟) يعني: لسنا موافقين على هذه الكلمة، (ما الرحمن؟ فو الله ما ندري ما هو، اكتب: باسمك اللهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا علي: اكتب: باسمك اللهم)، يعني: (باسمك اللهم) هذه ليست فيها معارضة لأمر شرعي، وإذا لم يكتب الرحمن الرحيم ليس معنى ذلك أنه غير معترف بأن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم، لا، وإنما لم يكتب ذلك في المعاهدة،

فهذه نقطة شكلية مررها الرسول صلى الله عليه وسلم دون وقوف، (فمحا علي بن أبي طالب البسملة وكتب: باسمك اللهم، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله)، ولم يكمل الكلمة بعد حتى وقف سهيل مرة أخرى، لكن هذه الوقفة مهمة جداً من سهيل قال: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله)، يعني: هم لم يعترفوا بعد بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكيف تكتب في الصحيفة ويوقع عليها سهيل، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله وإن كذبتموني، ثم أمر علياً أن يمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فسيدنا علي قال: لا أستطيع أن أمسح كلمة رسول الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال له: أرني مكانها، فأشار له علي رضي الله عنه وأرضاه على مكان الكلمة، فمحاها صلى الله عليه وسلم بنفسه)،

هذا موقف في منتهى العمق، فـ سهيل بن عمرو يريد أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في قضايا جانبية بعيدة عن الصلح، فهو يسحبه في تفريعات بعيدة عن الموضوع الأساس الذي نتكلم فيه، وكانت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام واضحة جداً، فهو يريد أن تتم المعاهدة؛ لأن هذه البنود كلها في صالح المسلمين، ويرى أن فيها نصراً للمسلمين، لم يكونوا يحلمون قبل صلح الحديبية، فالمسلمون يقولون: كان كل طموحنا أننا نؤدي العمرة ونرجع مرة أخرى إلى المدينة المنورة، والآن عندنا كل المكاسب، فلا نعطل الصلح من أجل كلمة كذا أو كذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد للصلح أن يتم، وهذه الكلمات لن تؤثر على الصلح.

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يمحو كلمة: محمد رسول الله، ويكتب: محمد بن عبد الله، وهذا الكلام ليس فيه خطأ هو فعلاً محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نكتب هذا الأمر وتمر المعاهدة بسلام، ويخرج المسلمون بكل هذه الفوائد التي فيها؟! من المرونة أن أتنازل عن أشياء لا تقدم ولا تؤخر، وليس فيها مخالفة شرعية، وهذا واضح من إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمحو هذه الكلمات، فهو صلى الله عليه وسلم لا يقر باطلاً أبداً، ونحن نحتاج إلى أن نفهم هذا الكلام جيداً، نحتاج إلى أن نفهم متى نتشدد ومتى نتساهل، متى نقول: لا يمكن أبداً أن نتنازل عن هذا الأمر، ومتى نقول: يمكن نتنازل عن هذا الأمر أو نقبل بهذا الأمر.




الضوابط والشروط المستفادة من صلح الحديبية


السيرة النبوية كلها كنوز، وكلها واقع، نحن نقرأ هذا الكلام الذي وقع قبل (1400) سنة، لكن هذا الكلام له تطبيق في كل يوم من حياتنا وتعالوا ننظر إلى صلح الحديبية وكيف أنه بين لنا وعرفنا شروط الصلح في الإسلام: أولاً: هذا الصلح ليس فيه إقرار للمشركين على باطل، وليس فيه تنازل عن شيء من الدين، وليس فيها إعطاء أرض لقريش ليست أرضهم، أو الاعتراف لهم بها، هذه الأمور لم تكتب في الصلح، وهذا الصلح لا يمنع المسلمين من التسلح، ولا يمنع المسلمين من عقد الأحلاف، ولا يمنع المسلمين من إعداد العدة، ولا يأمر المسلمين بتغيير المناهج أو تبديل الثوابت.

إذاً: هذا والصلح في الإسلام، صلح ليس فيه تنازل عن شيء من الشرع.

ثانياً: هذا العهد وهذا الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين قريش لم يقر الصداقة بينهما، وإنما فقط أقر وضع الحرب لمدة عشر سنوات مع بقاء الحالة كما هي عليها، حالة العداوة بين المسلمين وبين المشركين باقية، لم يقر الصداقة بين المسلمين وبين المشركين.

ثالثاً: هذا العقد إلى أجل، عشر سنوات، وبعد العشر سنوات يمكن أن نقعد ونتكلم، إذا أردنا أن نمد العهد بعد عشر سنوات نفعل، وإن رأينا أن هذه المدة تكفي لم نفعل، لكن لا يوجد شيء اسمه سلام دائم، كما في عصرنا مع عدم عودة الحقوق سلام دائم لا ينفع، السلام مقرون بعودة الحقوق.

رابعاً: هذا العقد واضح البنود ليس فيه بند مبهم، بحيث يفهم على أكثر من محمل، لا، بل واضح جداً؛ من أجل أن يضمن المسلمون حقهم تماماً دون خداع من الطرف الآخر.

خامساً: هذا العقد عُقد وللمسلمين قوة تستطيع أن تردع العدو إذا خالف المعاهدة، أما إن لم تكن لك هذه القوة فلا معنى للمعاهدة، فمثلاً: لو أننا وضعنا بنوداً وحصلت منا تنازلات ومنهم تنازلات، وجاء بعد سنة أو سنتين فخالفوا هذه المعاهدة، ماذا ستعمل هل ستذهب لتشتكي وتشجب وتندب وتدعو هذا وذاك ليدافع عنك، أم عندك القوة الكافية لردع العدو ومعاقبة العدو إذا خالف المعاهدة؟!

فالرسول عليه الصلاة والسلام كانت عنده هذه القوة، وسنرى بعد سنتين كيف أنه صلى الله عليه وسلم ردع قريشاً وحلفاءهم بني بكر عندما خالفوا هذه المعاهدة مع المسلمين، لكن لو كان المسلمون ضعافاً وحصلت مخالفة ولم يستطيعوا أن يردعوا المخالف فماذا سيكون الموقف؟ سيكثر الاستهزاء والاستخفاف بهم، وهذه شيء طبيعي جداً، وحتى لو دخل طرف ثالث في المعاهدة ليضمن الطرفين، فهل الطرف الثالث سيكون على الحياد وقوي بحيث يستطيع أن ينصر الطرف الأول على الطرف الثاني، أو الطرف الثاني على الطرف الأول إذا خالف أحدهما، أم هو مع طرف من الطرفين سواء كان ظالماً أو مظلوماً؟!

إذاً: إذا لم يملك المسلمون القوة الكافية للردع عند المخالفة فلا معنى للمعاهدة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق