الثلاثاء، 22 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 33- عالمية الإسلام-2


وكل دول العالم لن تتعامل مع هذا الكيان الجديد -الدولة الإسلامية- إلا بعد اعتراف قريش به، أما قبل ذلك فالمسلمون في نظر العالم عبارة عن جماعة غير شرعية خرجت عن منهج الدولة الأم قريش، وبالتالي لا يمكن التعاون معها إلا من قبل المعادين لقريش، ولم يكن أحد يعادي قريشاً لا في الجزيرة ولا في العالم في ذلك الوقت، من أجل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في بداية الأمر شغل نفسه بدعوة من حوله من العرب في الجزيرة في فترات الدعوة الأولى؛ لأنه يعلم عدم جدوى مراسلة الآخرين قبل اعتراف قريش.


أما الآن وبعد اعتراف قريش بالدولة الإسلامية فزعماء العالم سيتقبلون فكرة المراسلة بينهم وبين زعيم الدولة الجديدة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيسقط حاجز الشكليات والرسميات والبرتوكولات لتبقى مناقشة مضمون الرسالة: هل هذا الدين الجديد دين يستحق الاتباع، أم أن صاحبه يكذب علينا؟ فيناقشون الموضوع بموضوعية إلى حد ما، وستكون مناقشة هذه الرسالة أفضل لا شك إذا كان المرسل قوياً ممكناً؛ لأن الله عز وجل يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن، وكل هذا تحقق إلى حد كبير بعد صلح الحديبية.


من أجل ذلك ما إن وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة سانحة أرسل الرسائل مباشرة إلى كل زعماء العالم آنذاك، فهو لم يضيع الوقت، بل أرسل الرسائل مباشرة، والرسائل كانت في منتهى الوضوح، حيث دعاهم إلى الدخول في الإسلام، وحملهم مسئوليتهم ومسئولية شعوبهم أيضاً، وبدأت هذه الرسائل تخرج من المدينة المنورة.


وقد خرجت أولى هذه الرسائل في نفس الشهر الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية شهر ذي الحجة سنة (6) هـ، والبعض أخرها إلى غرة محرم سنة (7) هـ، يعني: بعد صلح الحديبية بأيام، انظر إلى مدى استعجال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؛ لأنه أحس أن فترة طويلة جداً مرت به، وهو يريد أن يوصل الإسلام إلى كل مكان، لكن الظروف لم تسمح، عندما سمحت الظروف مباشرة أرسل الرسل، خرجت هذه الرسائل في معظمها في وقت متزامن لا يفصل بينها إلا أيام، ولم تتأخر إلا بعض الرسائل، وإن شاء الله سنتعرض لها في الدروس القادمة.


والرسائل التي أرسلت في شهر ذي الحجة سنة (6) هـ وأوائل محرم سنة (7) هـ كانت سبع رسائل كالآتي: رسالة إلى النجاشي أصحمة رحمه الله ملك الحبشة، وحملها عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه. ورسالة إلى المقوقس زعيم مصر، وحملها حاطب بن أبي بلتعة اللخمي رضي الله عنه. ورسالة إلى كسرى ملك فارس، وحملها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه. ورسالة إلى قيصر ملك الروم، وحملها دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه. ورسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وحملها العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه. ورسالة إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، وحملها سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه. ورسالة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك دمشق، وحملها شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه.


إن في قصة إرسال الرسائل والحوار الذي دار بين السفراء وبين ملوك العالم دروساً لا تحصى، لكن لضيق الوقت لا نستطيع أن نحلل كل هذه السفارات، لكن إن شاء الله سنحلل هذه الرسائل إجمالاً، ونأخذ مثالاً أو مثالين على هذه الرسائل إن شاء الله، وبتحليل هذه الرسائل نجد أن مضمون الخطاب في كل المراسلات واحد تقريباً؛ لأن الرسائل ليست دعوة إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو إلى تبادل السفراء أو إلى مجرد التعارف، ولا إلى طلب استمداد شرعية ما باعتراف الدول الأخرى به، إنما الهدف واضح تمام الوضوح، الهدف الدعوة الصريحة للإسلام، الدعوة إلى ترك أي دين كان، والدخول في الدين الجديد الإسلام.


وهذا يعني اتباع الدين الجديد، وهو يقضي الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام ليس سهلاً؛ لأن الملك سيتحول من ملك مطاع لا ترد له كلمة إلى تابع مطيع يرد الأمر كله لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك من سيقبل هذه الدعوة ويكون مؤمناً، ولا شك أن هناك من يرفض هذه الدعوة ومن قد يغضب ويثور ويعترض وقد يرسل الجيوش ويهدد بالقتل كل هذا متوقع، وكل هذا مع أنه صعب إلا أنه لا يمنع من تبليغ دعوة رب العالمين إلى العالمين.


وهذه الخطابات والرسائل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائداً قوياً، وكان مجاهداً عزيزاً لا يخشى في الله لومة لائم، وكان متجرداً تماماً لله عز وجل طائعاً لكل أوامره؛ لأن أي واحد من ملوك الدنيا لو كان في وضعه، فإنه لن يفكر أبداً في مراسلات من هذا النوع؛ حتى لا تنقلب عليه الأوضاع ويثور عليه أهل الدنيا، ولكن لكونه رسولاً صلى الله عليه وسلم فهو يعلم أن مهمته تقتضي البلاغ للعالمين مهما كان الثمن، وبعد ذلك هو رأى بعينه ورأى المسلمون معه أن الله عز وجل ينصر الدين حتماً، ويخرج المسلمين من الأزمات مهما اشتدت هذه الأزمات، وقد أخرجهم سبحانه قبل ذلك من أزمات في مكة وبدر وأحد والأحزاب وبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وغير هذا كثير.


لم يكن هذا التاريخ من الانتصارات لضعف أعداء الأمة أبداً، كل أعداء الأمة كانوا أقوياء جداً، لكن هذا الانتصار كان بقوة الله عز وجل وإرادة رب العالمين سبحانه وتعالى ونصره للذين آمنوا به. إذاً: هذه المعاني كانت واضحة جداً في ذهن النبي عليه الصلاة والسلام، من أجل ذلك جاءت رسائله في منتهى الوضوح لا تميع فيها ولا مداهنة، وبغير هذه النظرة التي ذكرناها لا يمكن أبداً أن تفهم رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق