الخميس، 10 أبريل 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 32- ما بعد الحديبية-1


الدرس الثاني والثلاثون ما بعد الحديبية



تجلت الحكمة والحنكة العظيمة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في صلح الحديبية، فقد بين لهم بسعة صدر ورحمة أن ما يقوم به هو وحي من الله عز وجل، وأن هذا الصلح وإن كان في ظاهره إجحاف بالمسلمين؛ إلا أن مضمونه في صالحهم، فقد كان نصراً وفتحاً مبيناً، كما سماه الله تعالى في سورة الفتح، وظهرت آثار ذلك الصلح بعد في مصلحة المسلمين، فقد انتشرت الدعوة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسمع العالم بدولة الإسلام. 


مواقف في صلح الحديبية 


موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
من رد أبي جندل وتسليمه لأبيه


أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس العهد المدني في السيرة النبوية، فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا في الدرس السابق عن صلح الحديبية الذي سماه ربنا سبحانه وتعالى بالفتح المبين، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وكثير من المفسرين وكثير من الصحابة يطلقون هذا الفتح المبين على صلح الحديبية، وآثار الحديبية كثيرة جداً وعظيمة جداً.

وتكلمنا في الدرس السابق عن بنود صلح الحديبية وعن مدى استفادة المسلمين من هذا الصلح العظيم، ومع كل هذا إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا الخير الذي في ذلك الصلح أول الأمر، بل رأوا أنهم قد أعطوا الدنية في دينهم، ورأوا أنهم لم يدخلوا المسجد الحرام أو البيت الحرام، وكانوا قد وعدوا بدخوله والطواف حول البيت وما إلى ذلك، فهذا ترك أثراً سلبياً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ووقفنا في الدرس السابق عند كتابة هذا الصلح، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر مرونة واضحة في كتابه هذا الصلح حتى يتمه، وبعد أن كتب الصلح حدث أمر زاد من هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو أن أحد المسلمين الذين أسلموا في مكة ولم يستطع أن يهاجر إلى المدينة المنورة مع المسلمين جاء إلى المسلمين بعد كتابه الصلح، فهو عندما علم أن المسلمين قد جاءوا إلى الحديبية جاء إليهم وهو يرسف في أغلاله، كان أبوه قد قيده في داخل البيت من أجل ألا يهاجر إلى المسلمين، وعندما علم أن المسلمين على أبواب مكة جاء إليهم يرسف في أغلاله،

فمن هو هذا الرجل؟ هذا الرجل هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، هو ابن سفير قريش في معاهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوه هو الذي كتب المعاهدة بينه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو جندل بن سهيل لينضم إلى صف المسلمين، ولقد فجع سهيل حين رأى ولده أبا جندل مع أنه كان قد قيده قبل ذلك في البيت، فأصبحت الأزمة أزمة كبيرة جداً، فهذا ابن سهيل يريد أن ينضم إلى المسلمين، هنا انتفض سهيل بن عمرو وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده،

فالمعاهدة تقول: من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مسلماً يرده صلى الله عليه وسلم إلى أوليائه، وهذا سهيل بن عمرو ولي أمر أبي جندل يطلب أن يرده الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام حاول قدر المستطاع أن يأخذ أبا جندل، فقال: (إنا لم نقض الكتاب بعد) يعني: نحن ما زلنا نكتب الكتاب، فقال سهيل: إذاً -والله- لا أقاضيك على شيء أبداً يعني: إما أن آخذ أبا جندل وإما ألا يكون هناك صلح، فأصبح الموقف صعباً، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يشعر بقيمة هذه المعاهدة ويريد لها أن تتم قدر المستطاع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً فأجزه لي) يعني: أعطه لي كرماً منك، قال: ما أنا بمجيزه لك.

يعني: لن أعطيه لك، فقال صلى الله عليه وسلم يحاول أن يسترضي سهيل بن عمرو قال: (بلى تفعل، قال: ما أنا بفاعل) إنه موقف صعب، وقد ذكرنا في الدرس الذي سبق أن ثلاثة من أولاده أسلموا قبل ذلك وانضموا إلى جيش المسلمين وإلى دولة المدينة المنورة، وهؤلاء الثلاثة هاجروا هجرة الحبشة ثم هاجروا بعد ذلك هجرة المدينة المنورة، فهذا هو الذي بقي له أبو جندل، فهو متمسك به إلى النهاية، قال: ما أنا بمجيزه لك، ما أنا بفاعل.

ثم لم يكتف بذلك سهيل بن عمرو، بل قام وأخذ يضرب أبا جندل أمام المسلمين، والمسلمون يتأثرون ويبكون على حال أبي جندل، لقد كان موقفاً مؤثراً جداً، وأبو جندل رضي الله عنه وأرضاه لم يكتف بهذا المشهد المؤثر جداً في المسلمين، بل ذهب إلى المسلمين وقال لهم: (يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! الحقيقة أن هذا موقف صعب شديد الصعوبة، فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم ويرى ما فيها من آثار، وموقف أبي جندل لا شك أنه محرج، لكن ماذا يفعل؟

إذاً: الموازنة هنا وتحكيم العقل تقول: إنه يرد أبا جندل مع كل التداعيات التي قد تحدث لـ أبي جندل بعد ذلك؛ لأن ثمن إتمام صلح الحديبية هو أن يرد أبا جندل إلى المشركين مرة ثانية؛ لأننا قد كتبنا العهد، والمسلمون عند عهودهم، والمسلمون يتصفون بوفاء لا غدر، فما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كتب المعاهدة مع سهيل بن عمرو وأقرت فلا معنى هنا لنقض المعاهدة، وخاصة أنها في صالح المسلمين كما ذكرنا، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك أبا جندل هكذا إنما قال له كلمات، وفي داخل هذه الكلمات إشارات جميلة جداً منه صلى الله عليه وسلم، قال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم).

في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من إشارة: أولاً: الرسول عليه الصلاة والسلام حكم العقل وقال: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن، وذكر قاعدة هامة جداً من قواعد المسلمين في المعاهدات وهي الوفاء لا الغدر، حتى لو كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك، فما دمت قد عاهدت فلا غدر، والمسلمون عند عهودهم. ثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى طريقاً للنجاة لـأبي جندل ، قال له: (اصبر واحتسب) ثم بشره بأن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة فقال: (فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً)

فهو صلى الله عليه وسلم ذكر أن مع أبي جندل في داخل مكة المكرمة بعض المستضعفين، وفي هذا إشارة إلى أنك إذا وجدت جهدك مع أولئك المستضعفين فقد يكون ذلك هو السبب في خروجكم من الأزمة، وهو السبب في الفرج الذي سيجعله الله عز وجل لك ولمن معك من المستضعفين. وهؤلاء المستضعفون عندهم أكثر من طريق، فيمكن أن يهاجروا كما هاجر المسلمون قبل هذا إلى الحبشة، يمكن أن يهاجروا إلى أي مكان آخر غير المدينة المنورة، حتى لا يوقعوا المسلمين في حرج بعد هذه المعاهدة، ويمكن أن يكتموا إسلامهم، ويمكن أن يتظاهروا بالكفر، ويمكن أن يعملوا أي شيء إلى أن يجعل الله عز وجل لهم فرجاً ومخرجاً،

وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أبو جندل صادق الإيمان فلا شك أنه سيؤمن بهذا الوعد، وكذلك المؤمنون معه من أهل مكة المكرمة، وقد يقول شخص: قدِّر أن أبا جندل فتن في دينه؛ نتيجة الإيذاء والتعذيب الذي وقع عليه من سهيل بن عمرو أو من غيره من زعماء مكة!

نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذه الكلمات كما جاء في صحيح مسلم، قال: (إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله)، يعني: الذي يترك الإسلام ويرتد ويعود إلى المشركين أبعده الله، ولا نريده: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)، يعني: من جاءنا منهم ورددناه بعد ذلك إلى مكة فلا شك أن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة، وليس من الممكن أبداً أن يسعى هو إلى الله عز وجل، ثم يوقعه الله عز وجل في فتنة.

إذاً: فهذا الأمر كان واضحاً جداً في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه وإن رد أبا جندل فهو في يوم من الأيام سيأتي إلى المسلمين مرة ثانية، لكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يرون هذه الأبعاد، كل ما يرونه أن أحد المؤمنين يحاول أن ينضم إلى جيش المسلمين وإلى دولة المسلمين ولا يستطيع المسلمون مع قوتهم ومع دولتهم أن يأخذوه، ورأوا أن ذلك هو الدنية في الدين، وأن هذا نقص كبير جداً في المعاهدة، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف حين رأى أبا جندل يضربه أبوه سهيل بن عمرو والرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يأخذه معه إلى جيشه؛

قام عمر بن الخطاب واقترب من أبي جندل وقرب إليه مقبض سيفه موحياً له أن يأخذ السيف ويقتل أباه، قال عمر بن الخطاب مخاطباً أبا جندل : (اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني منه قائم السيف).

يقول عمر بعد ذلك تعليقاً على هذا الأمر: (رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه)، يعني أن : أبا جندل ما أخذ السيف وما قتل أباه، فهذا فعل العاطفة وليس فعل العقل. والحمد لله أن أبا جندل لم يأخذ السيف ويقتل به سهيل بن عمرو ، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ليقر ذلك أبداً؛ لأن هذا لا شك أنه سيؤدي إلى تأزم الموقف، وقد تنقض قريش العهد بكامله وتعترض على المصالحة، ويكون في ذلك خسارة للمسلمين. ورد أبو جندل إلى المشركين، وأنفذ العهد كما أمر صلى الله عليه وسلم.


وبعد معاهدة صلح الحديبية دخلت قبيلة بني بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعبر عن أهمية هذا الصلح وقيمته؛ لأن قبيلة خزاعة مع تاريخها الطويل مع بني هاشم إلا أنها لم تدخل في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن عقد صلح الحديبية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق