السبت، 22 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-8


إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان
لمفاوضة قريش في الصلح
ج2

وعثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة شريفة لها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم يقول: (وإنه -أي: عثمان بن عفان - مبلغ ما أردت) يعني: الذي تريده سيتحقق على يد عثمان ما هو علي يدي أنا، وواضح من كلام عمر بن الخطاب ومن سيرته قبل هذا الأمر وبعد هذا الأمر أنه لا يخشى الموت، ولم يقل هذا الكلام خوفاً من قريش أو من غيرها، بل كان على استعداد دائم أن يبذل روحه في سبيل الله عز وجل، لكنه يريد أن تتم المهمة،

وهذه المهمة مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه سيؤديها؛ لأن عمر ليست له منعة في داخل مكة المكرمة وهو يريد أن تتم هذه المهمة؛ لذلك ذكر اسم عثمان بن عفان، ولماذا عثمان بن عفان من بين (1400) صحابي؟ هذا اختيار في منتهى الحكمة فعلاً؛ لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب، فـ عثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية تقدر على حماية عثمان بن عفان، وإجارة بني أمية تمضي على كل قريش، كذلك أبو بكر الصديق نفسه لو ذهب فإنه لا يؤدي مثل ما يؤدي عثمان بن عفان؛ لأن قبيلة أبي بكر الصديق قبيلة ضعيفة، التي هي قبيلة بني تيم.

إذاً: كان اختيار عمر موفقاً لـ عثمان جداً هذا أولاً.

ثانياً: عثمان بن عفان مشهور بالحلم والحكمة، فعنده القدرة على أن يتفاوض ويؤدي المهمة كما ينبغي أن تؤدى.

ثالثاً: عثمان بن عفان رجل محبوب جداً في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريماً واسع الكرم، يعطي عطاء بلا حدود، وكل أهل مكة قبل ذلك استفادوا منه، فهو عند أهل مكة محبوب، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع،

وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متزوجاً في البداية من السيدة رقية، فلما ماتت تزوج أم كلثوم ، وهو الآن هو زوج ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام أم كلثوم ، ولن يضحي الرسول عليه الصلاة والسلام بزوج ابنته هكذا إذا أرسله، فمن الواضح أنه يريد الصلح والهدنة مع قريش. 


هذه أمور كثيرة جداً تجعل موقف عثمان بن عفان مترجحاً في هذه السفارة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع ذكر اسم عثمان بن عفان وجد أنه الرجل المناسب، وقبل تشريح عمر بن الخطاب لإرسال عثمان بن عفان إلى قريش، وبالفعل كان هو رسول المسلمين إلى قريش، وهذا يرينا مدى سعة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه قبل بتغيير رأيه دون أن يثور على عمر بن الخطاب أو يتهمه بعدم القبول لرأيه وبالتقصير في حق المسلمين؛ لأنه ليس هناك وحي في هذه القضية.


إذاً: كان هذا موقفاً من أعظم المواقف في تاريخ المسلمين، كيف أن عند الحاكم استيعاباً لكل القدرات الموجودة في الجيش، وهذا الموقف لا يجب أن يمر دون أن نذكر أنه من أعظم مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، حيث أوكلت إليه هذه المهمة العظيمة الخطيرة جداً، والتي تعبر عن مدى ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه في اختياره للتحاور والتفاوض مع المشركين. وفي هذا الموقف نفي كل الشبهات التي قيلت في حقه بعد ذلك من المغرضين ومن أعداء المسلمين.

وخرج عثمان بن عفان من عند الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قريش بمهمة شديدة الوضوح، فقد أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاثة أمور واضحة:

الأمر الأول: عليه أن يخبر قريشاً أن المسلمين لم يأتوا إلا معتمرين، وأنهم ما أرادوا القتال في هذه الرحلة إلى مكة المكرمة، وأنهم سيقبلون أي خطة تعظم فيها قريش حرمات الله عز وجل، هذا أول أمر وأهم أمر.

الأمر الثاني: أن يدعو قريشاً إلى الإسلام. حتى في هذا الموقف نرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بهداية قريش إلى الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثالث: أن يأتي المستضعفين من المسلمين في مكة، والمستضعفون في مكة هم الذين لم يستطيعوا لضعفهم أن يهاجروا إلى المدينة المنورة، فهو صلى الله عليه وسلم أمر عثمان بن عفان أن يذهب إلى هؤلاء المستضعفين سراً ويتحدث إليهم بتبشيرهم أن الله عز وجل سيعز المسلمين يوماً، وأنه لن يستخفي أحد بعد ذلك بالإسلام في مكة، وهذه بشارة نبوية، ومكانها في هذا التوقيت في غاية الأهمية؛ لأن المستضعفين في مكة المكرمة يرون قريشاً تحاصر المسلمين في الأحزاب وتقاتل المسلمين مرة بعد مرة، والآن يمنعون المسلمين من دخول مكة، فهذا الوضع قد يؤثر سلباً على نفسيتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يهتم جداً بنفسيات هؤلاء المستضعفين، مع أنهم ليسوا معه في دولته في هذه اللحظة، لكنه يهتم بكل رعايا الدولة الإسلامية كل بحسب ظروفه ومكانه.

إذاً: هذه كانت مهمة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وبالفعل ذهب عثمان بن عفان إلى مكة المكرمة ليؤدي المهمة العظيمة، ومع أنه رسول والرسل عادة في عرف هذه البلاد وغيرها لا تقتل، إلا أنه لم يعتمد على هذا الأمر فقد أخذ بكامل الأسباب؛ لكي لا يحدث له أي أذى، ولكي تتم المهمة على الوجه الأكمل.

أول ما دخل طلب إجارة أبان بن سعيد بن العاص الأموي رضي الله عنه وكان وقتها ما زال مشركاً، فدخل في إجارة أبان ، و أبان رجل قوي وفيه لين ورحمة ولطف، وعلاقته قوية بـعثمان بن عفان ، وسيدافع عنه لصلة الرحم والقرابة والمعرفة، وبصفة اللين التي يتميز بها أبان بن سعيد وفوق هذا كله توفيق رب العالمين سبحانه وتعالى هو الذي جعل سيدنا عثمان بن عفان يطلب إجارة أبان بن سعيد بالذات، و أبان بن سعيد قبل قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية كان في رحلة تجارية إلى الشام، وهناك في الشام التقى مع راهب من النصارى، وهذا الراهب ذكر له أن هذا الوقت سيظهر فيه رسول في بلادهم.

فـأبان بن سعيد مهيأ نفسياً، فهذا الذي يقف خارج مكة هو رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الإحساس جعله يدافع عن عثمان بن عفان بكل طاقته، فاستطاع عثمان أن يؤدي المهمة على الوجه الأكمل، فدخل عثمان بن عفان مكة في عزة، دخل سفيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقف مع (1400) صحابي خارج مكة المكرمة يطلب دخولاً للعمرة، وعرض عثمان عروضه بمنتهى القوة أمام قريش، وقريش في الحقيقة استقبلته أحسن استقبال، استقبلته استقبال السفراء، وسمعت منه ما قاله، بل وعرضت عليه أن يطوف حول البيت الحرام،

وتصور مدى اشتياق عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه للطواف حول البيت الحرام، له ست سنوات كاملة في المدينة المنورة ولم يطف في هذه السنوات الست ولا مرة بالبيت الحرام، لكن مع هذا الاشتياق الذي كان عند عثمان بن عفان ومع هذا الأجر العظيم في الطواف حول البيت الحرام، إلا أن عثمان بن عفان قال قولاً صارماً واضحاً لقريش، يعبر عن مدى ولاء المسلمين لقائدهم صلى الله عليه وسلم، قال: (لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم).

هذا موقف من أعظم مواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ومن أدقها فهماً وفقهاً، فهو قال لهم: إنني لا أستطيع أن أتحرك قيد أنملة إلا بأمر من قائدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الموقف من عثمان بن عفان أحدث هزيمة نفسية لقريش، وعرفت أن الصف المسلم قوي صلب لا يمكن أن يخترق، فمع أن عثمان بن عفان جاء على بعد ( 400 ) كيلو أو ( 500 ) كيلو طلباً لهذه العبادة، ومع ذلك لا يستطيع أن يؤديها إلا بأمر من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

إذاً: هذا موقف عظيم فعلاً هز قريشاً، وقريش بعد هذا الموقف بدأت تفكر تفكيراً عملياً سريعاً في الصلح مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يبق فقط إلا أن يحددوا بنود هذا الصلح، فالصلح أصبح أمراً واضحاً عند قريش بعد هذا الموقف، ومن قبله مواقف المسلمين العزيزة في المفاوضات التي تمت عند الحديبية.

ما الذي حصل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة المكرمة بعد أن أدى مهمته؟ وما رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لما حصل لـعثمان بن عفان ؟ وكيف ستكون بنود الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين المشركين؟ وكيف سيكون تطبيق هذه البنود على حياتنا وعلى واقعنا، وعلى ما نشاهده اليوم من معاهدات؟

هذا ما سنعرفه إن شاء الله في الدرس القادم وغيره. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق