الأربعاء، 19 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-4


قصة غزو الرسول صلى الله عليه وسلم
لعضل والقارة من بني لحيان


بعد هذه الآثار العظيمة من ارتفاع معنويات المسلمين، وخوف الأعراب، وهزة قريش، وإسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وقتل زعماء اليهود الكبار وفي أولهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، بعد كل هذا كان لزاماً على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك؛ لأن قريشاً ستنشغل بنفسها ولن تقدم أي معونة لأحد في حرب المسلمين، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في رسم خطة لبسط السيطرة على الجزيرة العربية.

ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في صورة شبكة منظمة رائعة، طرقت تقريباً كل دروب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وكان شعار هذه المرحلة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).

فأول قبيلتين فكر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يحاربهم: قبيلة عضل، وقبيل قارة، وقصة هاتين القبيلتين في الغدر بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معروفة ومشهورة، وتكلمنا عليها قبل هذا في الدروس السابقة، وهي قصة الغدر عند ماء الرجيع.

فقد قتلت هاتان القبيلتان من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام (10) عند ماء الرجيع، بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكان وقع هذه المصيبة كبيراً جداً على الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ظل يدعو عليهم في قنوته في كل صلواته لمدة شهر كامل.

فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد الفرصة مواتية لقتالهم أعد العدة لذلك، بل وقرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة بني لحيان.

وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالفعل بجيشه إلى بني لحيان في ربيع أول سنة (6) هـ، وهذا الخروج خطير جداً لأمور: أولاً: لأن قبائل بني لحيان قبائل قوية مقاتلة.

ثانياً: لأن قبائل بني لحيان اشتهرت بالغدر وقطع الطريق، من أجل هذا عندهم عدة كمائن على الطريق.

ثالثاً: لأن مساكن بني لحيان بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فهي تبعد تقريباً (400) كيلو متر من المدينة المنورة إلى الجنوب.

رابعاً: لأن مساكن بني لحيان قريبة جداً من مكة المكرمة، على بعد (90) كيلو متر من مكة المكرمة، فلا يستبعد أبداً أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة من مكة المكرمة فتخرج له قريش، وأنتم تعرفون قوة قريش.

كل هذه الأمور جعلت هذه الغزوة خطيرة، ومن أجل هذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه فيها.

وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع أول (6) هـ، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في (200) من أصحابه، ومعه مجموعة من الفرسان في هذه الغزوة، وأوهم الناس أنه سيتجه إلى الشمال في بادية الشام، وبعد ذلك غير الاتجاه وذهب إلى الجنوب حتى يعمي على العدو، ووصل إلى ديار بني لحيان، لكن كما ذكرنا قبل هذا أن بني لحيان كانت لهم عدة كمائن على الطريق، واكتشفت هذه الكمائن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن فروا من ديارهم لما عرفوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد غزوهم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في (200) فارس، وجاء على بعد (400) كيلو من المدينة المنورة، فهرب بنو لحيان جميعاً في رءوس الجبال وتركوا ديارهم خالية.

وكان على غير مراد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يقابلهم ويحاربهم؛ لينتقم لأصحابه أصحاب الرجيع، لكن هروب بني لحيان ترك أثراً إيجابياً كبيراً جداً في صالح المسلمين في المنطقة كلها.

العربي ليس من شيمه الهروب، والجبن صفة مذمومة جداً عنده، لا يحب أبداً أن يوصف بها، وبالذات إن كانت القبيلة قبيلة قوية لها تاريخ في الحرب والقتال والغزو، لكن ربنا سبحانه وتعالى ألقى الرعب في قلوبهم، لم يفكروا أصلاً في المقاومة، لم يفكروا في سمعتهم أمام القبائل الأخرى، فكان ذلك انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين بلا شك، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا الانتصار، بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان، لكن لم يعثر على أحد منهم.

ويعتبر بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض القبيلة مدة يومين كاملين هذا من أقوى دلالات الانتصار عند العرب، لأن من ينتصر لا يخرج سريعاً من مكان القتال وكأنه يخشى القوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أنه لا يخاف بني لحيان ومكث يومين كاملين، ليس هذا فحسب، بل أرسل سرية صلى الله عليه وسلم من (10) فرسان في اتجاه مكة حتى بلغت كراع الغميم، وكراع الغميم على بعد حوالي (60) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم ولا يستخفون؛ ليعلم بهم أهل مكة وأنهم سيغزون مكة؛ وذلك لإلقاء الرعب في قلوب القرشيين، وحدث ما تمناه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد فزعت قريش ونفرت إلى السلاح، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام عاد إلى المدينة ولم يدخل معهم في قتال؛ لأنه غير مستعد لقتال قريش في ذلك الوقت، لكن تحقق له ما أراد وشعرت قريش بالخطر الشديد من المسلمين.




غارة عيينة بن حصن الفزاري
على بعض ممتلكات المسلمين حول المدينة
وردة فعل المسلمين تجاه ذلك

بعد أسبوعين كاملين من الغياب عن المدينة المنورة، وفي أثناء عودة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أغار عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين في خارج المدينة المنورة، في منطقة تعرف بالغابة، وأخذ منها إبلاً وشياهاً للمسلمين، وقتل راعيها -وهو رجل من غفار- واحتملوا امرأته، وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل الخبر إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم نقل له سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسلمة من أعظم الرماة في الإسلام، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك عاد سلمة مسرعاً إلى منطقة الغابة وظل يرمي الفرقة الغازية فقتل بعضهم وأصاب بعضهم.


وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فرقة سريعة الحركة من الفرسان، وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا غير سعيد بن زيد المهاجري رضي الله عنهم أجمعين، وكان في هذه الفرقة المقداد بن عمرو وعباد بن بشر وأبو قتادة وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم أجمعين، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال صلى الله عليه وسلم لأميرهم سعد بن زيد: (اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس) وخرجت هذه الفرقة السريعة، والرسول عليه الصلاة والسلام تبعها بعد ذلك بجيش من المسلمين، وأدرك هذه الفرقة عند مكان يسمى ذو قرد على بعد حوالي (35) كيلو متر شمال شرق المدينة المنورة.


في هذه الغزوة قتل أبو قتادة رجلاً من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه، وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة، وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل.

وطلب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل معه من الرجال ليغزو بهم قبائل غطفان في مكانها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض ذلك؛ لأن قبائل غطفان قبائل قوية جداً ومنازلها بعيدة عن المدينة المنورة، ولا يريد أن يدخل معها في صراع وهو لم يعد العدة الكافية لذلك.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع في واقعية دون تهور، فقد كان كل ذلك في حدود المدينة المنورة، وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيش إلى مغامرة غير مأمونة، وعلى العكس من ذلك فقد أخذ جيشه القليل صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بني لحيان؛ لأن هناك اختلافاً بين بني لحيان وبين بني غطفان، فقبيلة لحيان وإن كانت قوية إلا أنها أقل بكثير جداً من قبائل غطفان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي لكل أمر قدره، يحسب حساباته بدقة، ويتصرف على ضوء هذه الحسابات، في توازن رائع وفقه عميق.

هذه الحملة الأخيرة التي قادها صلى الله عليه وسلم تعرف بغزوة الغابة، وهو المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن، أو غزوة ذي قرد، وهو المكان الذي وصل إليه صلى الله عليه وسلم في مطاردته للمشركين، وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق