الأربعاء، 19 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-6


غزوة بني المصطلق

سمع صلى الله عليه وسلم بتجمع قبيلة بني المصطلق لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فباغتهم صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم في (2) شعبان سنة (6) هـ، ووصل إليهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، لذلك هذه الغزوة تعرف في بعض الكتب بغزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق، وفي هذه الغزوة انتصر المسلمون انتصاراً كبيراً على بني المصطلق وغنموا غنائم ضخمة وكبيرة، وسبوا عدداً كبيراً من نساء القبيلة، وكان منهن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها التي أصبحت أم المؤمنين بعد ذلك، وهي ابنة زعيم بني المصطلق الحارث بن ضرار، وكانت ضربة قوية هائلة للقبيلة.


ووقعت جويرية بنت الحارث التي هي بنت زعيم قبيلة بني المصطلق في نصيب ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، والرسول عليه الصلاة والسلام في قصة طويلة أدى عنها مكاتبتها لـ ثابت بن قيس، وعرض عليها الزواج بعد أن أسلمت وتزوجها صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف من الزواج واضحاً جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الزواج أن يتألف قلوب بني المصطلق، حيث أعتق المسلمون سبايا بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق يوم زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من جويرية بنت الحارث أهل مائة بيت من بني المصطلق،

وكان ذلك سبباً في إسلام قبيلة بني المصطلق، وكان نصراً عزيزاً للإسلام والمسلمين، ومع كون غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع ليست من الغزوات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الصراع فيها طويلاً ولا كبيراً ولا القتلى والشهداء كثيرين، ومع ذلك فهذه الغزوة اكتسبت أهمية خاصة في السيرة النبوية؛ لخطورة الآثار التي ترتبت على وجود المنافقين في داخل هذه الغزوة.




دور المنافقين في إذكاء الفتن
بين المسلمين في غزوة بني المصطلق


لقد حدثت انتصارات سابقة كثيرة بعد غزوة الأحزاب، ورأى المنافقون هذه الانتصارات المكثفة فخرجوا في غزوة بني المصطلق ابتغاء الحصول على غنيمة، وفي غزوة بني المصطلق تسبب المنافقون في أكثر من أزمة، كادت كل واحدة منها أن تطيح بكيان الدولة الإسلامية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في حق المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] (خبالاً) يعني: اضطراباً وضعفاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].

فهذا عين ما حدث في غزوة بني المصطلق، فقد تسبب المنافقون في فتن متتالية، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] يعني: وقع المؤمنون الصادقون في أمور كثيرة بسبب المنافقين، حيث التبس الأمر على أكثر المؤمنين في هذه الغزوة.

وهذه الأزمات التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة من الضخامة بمكان، فهي بحاجة إلى تحليل طويل وتدبر عميق، مما قد لا يتسع له المقام في هذه المحاضرة، لكن بإذن الله سنفرد لها حديثاً خاصاً في مجموعة أخرى من المحاضرات وقد نوهنا عنها قبل ذلك: وهي مجموعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين، سنجمع فيها كل الأخطاء التي وقع فيها الصحابة سواء في غزوة بني المصطلق أو في الغزوات الأخرى أو في السرايا أو في جميع السيرة النبوية، ونحلل فيها كيف كان رد فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأخطاء وهذه الأزمات.

وفي هذه المحاضرة إن شاء الله سنعرج سريعاً على هذه الفتن التي دارت في غزوة بني المصطلق.

الأزمة الأولى التي حدثت: كانت صراعاً قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة، وهذا الحدث نادر في السيرة، لعله الوحيد الذي حدثت فيه أزمة ضخمة بين المهاجرين والأنصار، وكانت أزمة كبيرة جداً كادت أن تتفاقم لولا حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيطرة عليها.

ثم إنه نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة جداً وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول كلمته الفاجرة يعلق فيها على المهاجرين بقوله: والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

كانت أزمة خطيرة جداً توشك أن تقضي على الأمة لولا أن الله عز وجل سلم.

وحدث بعد ذلك فتنة ثالثة خطيرة شنيعة أشد من الأولى والثانية: إنها حادثة الإفك، وفيها اتهم المنافقون السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه وأرضاها بالفاحشة، وللأسف الشديد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم، وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في هذه القضية إلا بعد شهر كامل، فبعد شهر كامل نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة الطاهرة رضي الله عنه وأرضاها من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون، واشترك فيها كما ذكرنا بعض المؤمنين.

وحادثة الإفك هذه من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين في فترات السيرة النبوية، وهذه الأزمة خطيرة جداً تحتاج إلى وقفات طويلة وتحليلات كثيرة، وانتباه إلى رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدبر في تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى للحدث كما في سورة النور.

إذاً: هذه قصة كبيرة جداً تحتاج إلى تفريغ وقت وتدبر، وسنفرد إن شاء الله كما ذكرنا تفصيلاً في موضوع أخطاء المؤمنين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق