الأربعاء، 19 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-5


السرايا التي بعثها صلى الله عليه وسلم
بعد غزوة ذي قرد
لتأديب القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب وغيرها


وبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريباً؛ وذلك إلى القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب، وكذلك القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى القائل التي تستعد لغزو المدينة المنورة.

وهكذا بعث صلى الله عليه وسلم السريا الآتية: أولاً: بعث سرية بقيادة عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه إلى غمر مرزوق، وهو تجمع لفرع من فروع بني أسد، وبنو أسد من القبائل التي اشتركت في حصار الأحزاب، وكانت هذه السرية في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد وهو ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ.

السرية الثانية كانت بقيادة محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة على بعد حوالي (55) كيلو متر شمال المدينة، وهذه كانت في ربيع الثاني سنة (6) هـ.

في نفس الشهر ربيع الثاني خرجت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه إلى نفس المكان ولنفس الهدف لقتال بني ثعلبة.

في نفس الشهر كذلك ربيع الثاني خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالجموم، والجموم على بعد حوالي (100) كيلو متر من المدينة المنورة وخرجت لقتال بني سليم.

وبعد عودة هذه السرية بأيام في شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة جداً بقيادة زيد بن حارثة مرة ثانية أيضاً.

وسنرى أن اسم زيد بن حارثة يتكرر مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه لأمر كبير جداً سنعرفه عندما نأتي لغزوة مؤتة إن شاء الله.

المرة الثانية: خرج زيد بن حارثة على رأس سرية أخرى موجهة إلى منطقة تعرف بالعيص، وهذه المنطقة شمال غرب المدينة المنورة، وكان غرض هذه السرية اعتراض قافلة من قوافل قريش، فأمسك زيد بن حارثة بالقافلة بكاملها، وكانت ضربة كبيرة جداً لقريش.

وفي الشهر الذي يليه شهر جمادى الآخرة من سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الثالثة على رأس سرية إلى منطقة تعرف بالطرف على بعد (55) كيلو متر من المدينة المنورة على طريق العراق، وكانت لقتال فرع من فروع بني ثعلبة.

وفي نفس الشهر جمادى الآخرة سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في منتهى الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية، وهذه السرية مهمة جداً ومحتاجة لوقفة، وسبب هذه السرية أن أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه كان في طريقه من الشام إلى المدينة المنورة فاعترض طريقه أحد زعماء قبيلة جذام، وقبيلة جذام تسكن في شمال الجزيرة العربية، فهذا الزعيم كان اسمه الهنيد بن عوص ومعه ابنه ومجموعة من رجال قبيلة جذام، وأخذوا ما مع دحية الكلبي رضي الله عنه،

وسمع بذلك مجموعة من بني الضبيب، وبنو الضبيب كانوا من المسلمين فهبوا لنجدة دحية الكلبي، ونجحوا في استرداد الأشياء التي سلبها منه الهنيد بن عوص ومن معه، وحمل دحية الكلبي هذه الأشياء وعاد إلى المدينة المنورة، في عرف أناس كثيرين أن الموقف انتهى، ما دام الشيء الذي أخذ رجع فليس هناك داع للقتال، لكن عندما أخبر دحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة، حتى وإن كان ما سلب من المسلمين رد إليهم؛ ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا ينبغي أبداً أن تنتقص، وأن أي قبيلة أو إنسان تسول له نفسه التعدي على حرمة الأمة الإسلامية، ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة من المسلمين لا بد أن يحدث انتقام من قبل الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، من أجل هذا قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعث جيشاً لعقاب قبيلة جذام على تعديها على أحد رعايا الدولة الإسلامية، وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذان تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه.

هذا موقف مشرف جداً، يكتب بماء الذهب وأغلى من الذهب، لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع، فحاربهم وأجلاهم من المدينة جميعاً، وهاهو الآن ينتفض لانتهاك حرمة رجل مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فلا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة لحماية القائد لها، ولا تسل عن مدى إحساسهم بالأمان وهم يعلمون ويوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم، تحفظ كرامتهم، تدافع عن حقوقهم، ترفع رءوسهم في العالم أجمع.

وهذا الموقف يزداد قيمة عندما نعرف أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة قوية جداً، قبيلة جذام، وتقع مساكنها على بعد حوالي (800) كيلو متر شمال المدينة المنورة. تصوروا اجتياز مسافة طويلة وصعبة جداً في الصحراء وسيتم فيها لقاء صعب، لكن كرامة الأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات، هكذا يكون التعامل مع هموم وقضايا الأمة. فالرسول عليه الصلاة والسلام جهز سرية بقيادة زيد بن حارثة للمرة الخامسة في سنة (6) من الهجرة، عدد أفرادها (500) رجل، وهذه أكبر السرايا التي خرجت من المدينة المنورة، وأخرجها صلى الله عليه وسلم بهذا الحجم؛ لأن مهمتها صعبة، ولا مدد لها من المدينة؛ لبعد المسافة بينها وبين المدينة المنورة، كما ذكرنا تبعد عن المدينة حوالي (800) كيلو متر.

فخرج زيد بن حارثة بهذه السرية الكبيرة، وكان يسير ليلاً ويكمن نهاراً؛ حتى لا تكشفه العيون، وباغتت هذه السرية الكبيرة قبيلة جذام في الصباح فقتلت منهم عدداً كبيراً، وكان من بين القتلى الهنيد وابنه، وساق زيد بن حارثة من ماشيتهم (1000) بعير، و(5000 ) شاة، وساق من السبي (100) من النساء والصبيان، لقد كان هذا الحدث انتصاراً هائلاً وحدثاً مدوياً في الجزيرة العربية بكاملها. لقد عرف الجميع بوضوح أن انتقاص هيبة الدولة الإسلامية عاقبته الحرب والقتال والجهاد، لا بد لكل أهل الجزيرة أن يدركوا هذا الأمر جيداً، ولا بد أن يدركوا هذه القيمة العالية للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ولا بد لهم أن يدركوا قيمة كل مسلم، سواء كان مقيماً في المدينة أو مسافراً في أي مكان في الجزيرة العربية أو غيرها.

إذاً: لقد كان هذا الموقف في غاية الروعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع كون المسلمين يعيشون أزمة اقتصادية كبيرة بعد الأحزاب، ومع أن هذه الغنائم التي أتت إلى المدينة المنورة فيها خير كبير جداً للمدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد هذه الغنائم مرة ثانية إلى قبيلة جذام؛ وذلك عندما جاء إليه زيد بن رفاعة الجذامي رضي الله عنه أحد أفراد قبيلة جذام، وكان قد أخذ قبل ذلك كتاباً بالأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسلم هو وبعض أفراد القبيلة، ومع أن الكتاب كان قد تم نقضه عندما غدرت قبيلة جذام بـدحية الكلبي ، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام آثر أن يكسب قلوب القبيلة بإعادة الأموال والغنائم والنساء والصبيان، وحصل كل ذلك بعد أن ظهرت هيبة الدولة الإسلامية وظهرت قوتها وعزتها، وتحقق الهدف من السرية،

وقد تكون إعادة الغنائم والسبي الآن سبباً في ثبات المؤمن في القبيلة وسبباً في إسلام من لم يسلم بعد، فهذا تصرف سياسي حكيم جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثبت فيه للجميع سواء في زمنه أو في زمننا هذا وإلى يوم القيامة أنه صلى الله عليه وسلم لا يقاتل من أجل المال والغنائم والسبي والدنيا بكاملها، وإنما يقاتل لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل، ولأجل تعبيد الناس لرب العالمين، ولأجل الدفاع عن كرامة وحرمات الأمة الإسلامية.

إذاً: هذه السرية كما ذكرنا كانت في شهر جمادى الآخرة سنة (6)هـ سرية مهمة جداً. وبعد عودة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة المنورة مكث فيها عدة أيام، ثم خرج للمرة السادسة على رأس سرية أخرى إلى منطقة وادي القرى، وكان هذا في شهر رجب سنة (6)هـ لقتال قبيلة بني فزارة، وهي قبيلة عيينة بن حصن الذي سبق وأن أغار على المدينة المنورة في غزوة الغابة كما تعلمون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق