السبت، 22 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-2


توقف الرسول صلى الله عليه وسلم 
وأصحابه بكراع الغميم

وصل صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى منطقة تسمى كراع الغميم، وهو على بعد (60) كيلو أو (64) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً قد جمعت جيشاً وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة.

فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززاً مكرماً ممنوعاً، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة.

فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا (1400) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها، فوقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه.

فمثلاً: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم: نذهب أو لا نذهب؟ مع خطورة الأمر.

إذاً: ما دام ربنا سبحانه وتعالى أمر بكذا أو نهى عن كذا فلا مناقشة ولا تردد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في قضية عسكرية فأخذ الشورى فيها، فقد جمع أصحابه في هذا الموقف الخطير الذي هم فيه، وشاورهم: هل نحارب هؤلاء الذين تجمعوا لنا أم نعود ولا ندخل إلى مكة؟ هل نغير على قبائل الأحابيش الخالية الآن من الرجال؛ لأن معظم جيش الأحابيش خرج للوقوف عند كراع الغميم؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض فكرة الالتفاف حول هذا الجيش والميل على قبائلهم الفارغة من الجنود وقتلهم وسبيهم، فيكون ذلك عزة وقوة للمسلمين على الكفار، هذه كانت آراء مطروحة من الرسول صلى الله عليه وسلم طرحها على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ليختاروا ما يناسبهم، وعرض بعض الصحابة رضي الله عنهم آراءهم،

فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشاً كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي (200) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في الظروف الضيقة المحدودة جداً، تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، كما حدث في غزوة الأحزاب قبل كذا، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيراً ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جداً بقضية الصلاة،

ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا (1400)، فـ خالد بن الوليد قائد فرسان المشركين رأى المسلمين في صلاتهم في حال الركوع والسجود، ورأى الجيش كله لا يرى مَنْ أمامه في وضع السجود، فوجدها فرصة للإغارة على المسلمين فهو فكر بذلك دون أن يظهر ما فكر فيه إلى أحد، لكن خالد بن الوليد لم يأخذ قراراً حاسماً، مع أنه يرى أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل الذين حوله: هل هناك صلاة ثانية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون أحوال المسلمين: نعم هناك صلاة يسمونها صلاة العصر، هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم.

فرأى خالد بن الوليد أن هناك فرصة للهجوم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولم يخبر بذلك أحداً من أصحابه من المشركين، فلما جاء وقت صلاة العصر وقف صلى الله عليه وسلم ليصلي بالمؤمنين فنزل عليه الوحي بصفة صلاة الخوف، وصلاة الخوف صلاة خاصة لا يقوم بها المسلمون إلا في الظروف الضيقة جداً، في حال ما إذا كان المسلمون في ميدان القتال ويخافون من عدوهم أن يغير عليهم فإن لهم أن يصلوا صلاة الخوف.

ومن صفة هذه الصلاة بأن الإمام الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش، والنصف الآخر يقف للحراسة، وبعدما يصل الإمام إلى الركعة الثانية يقعد للتشهد ولا يقوم، وبقية الناس تسلم وتنتهي من صلاتها ركعتين؛ لأنهم يصلون صلاة قصر المسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى ليقف في الحراسة ويأتي الذين حرسوا الجيش في صلاته الأولى ويصلون خلف الإمام ركعتين أيضاً، فالإمام يقف بعد التشهد الأوسط ويصلي ركعتين التي بقيت له من الصلاة الرباعية التي هو صلاها فيصلي بنصف الجيش الثاني ركعتين، فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف صلى أربع ركعات، ونصف الجيش صلى الركعتين الأوليين، والنصف الثاني صلى الركعتين الأخريين.

إذاً: هذا الحكم نزل في الحديبية أمام خالد بن الوليد ، فـخالد بن الوليد كان يريد أن يهجم على المسلمين أثناء صلاة العصر، ولكن لم يقدر؛ لأن نصف الجيش وقف للحراسة، فقال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون، يعني: هؤلاء عليهم حماية غير طبيعية، حماية فوق طاقة البشر، كيف صلوا هذه الصلاة للمرة الأولى في حياتهم بهذه الكيفية، من أعلمهم بما فكر فيه خالد ، مع أنه لم يطلع أحداً على ما كان يفكر فيه؟ ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في أن يسلم؛ فهو أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة.

المهم لم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الدخول في قتال مع المشركين، وبعد ما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة أخذ الجيش وانحرف عن جيش خالد بن الوليد متجنباً إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فهو صلى الله عليه وسلم مصر على استكمال الأمر حتى نهايته، و خالد بن الوليد حين رأى ذلك الموقف أصبح متردداً في قضية القتال، وقال: إن القوم ممنوعون، ورجع سريعاً إلى مكة ليخبرهم بهذا الأمر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق