السبت، 22 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 30- الطريق إلى الحديبية-6


ثالث رسل قريش لمفاوضة 
النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا.

إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].

فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود: (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش.

فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـ الصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه.

فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) يعني: أنت كنت قد عملت معي معروفاً قبل كذا، ولأجل هذا المعروف لن أجيبك على هذا السباب الذي وجهته إلي، وحفظ للصديق معروفه القديم،

والحمد لله أنه كان هناك معروف من الصديق ؛ لأننا لا نريد الحرب أن تقوم، والرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى لحرب مطلقاً في هذه الرحلة بفضل الله. فلما هدأ الموقف وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم من جديد، وفي أثناء هذا الكلام كان عروة بن مسعود الثقفي يتحدث مع الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يمد يده يتناول لحية الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، فكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه واقفاً بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رآه يمد يده ويمسك لحية الرسول عليه الصلاة والسلام أهوى بنعل السيف على يد عروة بن مسعود الثقفي ليمنعها من الوصول إلى لحية الرسول عليه الصلاة والسلام،

وهذا الموقف مهم جداً؛ لأن اسم المغيرة الكامل هو المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه وأرضاه فهو ابن أخي عروة بن مسعود ، فهذا فيه إبراز معنى الولاء عند المسلمين لله ولرسوله وللمؤمنين، حتى وإن كان الذي يتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام الآن هو عم المغيرة بن شعبة مباشرة، فعم المغيرة بن شعبة أبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، و المغيرة بن شعبة يسمع ويطيع للرسول الهاشمي صلى الله عليه وسلم ولا يسمع ولا يطيع لعمه الثقفي، فهذا منتهى الولاء والتجرد للإسلام والمسلمين.

فهذه الرسالة وصلت إلى عروة بن مسعود الثقفي ونقلها حرفياً إلى قريش، ولا شك أنها كان لها أبعد الأثر في قلوب القرشيين، وهناك أمور كثيرة حصلت في أثناء زيارة عروة بن مسعود للتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأشياء ليست كلاماً من الصحابة إلى عروة بن مسعود الثقفي ، ولكنها أفعال فعلت للرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأفعال كانت تعظيماً وتوقيراً وإجلالاً للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذه الأفعال ليست متكلفة؛ لأن حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كلها كانت تفانياً في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام،

لكن إظهار هذه الأمور في ذلك الوقت وفي هذه المحادثات كانت مقصودة لاشك، وكان لها أبلغ الأثر عند عروة بن مسعود ، فنترك عروة بن مسعود يصور ذلك الأمر، فهو لما رجع إلى قريش ذكر لهم ما رأى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال للقرشيين: (أي قوم والله، لقد وفدت على الملوك على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً).

فهذا الكلام كان له أبلغ الأثر عند القرشيين وعند عروة بن مسعود نفسه، ثم بدأ يذكر أفعال الصحابة قال: (وإذا أمرهم محمد ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) يعني: عروة بن مسعود مع أنه رسول قريش إلى المسلمين يأمر قريشاً أن يسمعوا لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، وخطة الرشد هذه هي الخطة التي ليس فيها قتال، وهو لم يأت إلا لعمرة فاتركوه يؤدي العمرة ويرجع إلى المدينة. انظر كيف أثر تفاعل الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام من إظهار قوة الصف عند المسلمين وعزة المسلمين ورفعتهم وهيبتهم، كل هذه الأمور كانت أمام عروة بن مسعود لها أبلغ الأثر على القرشيين وعلى أعداء المسلمين؟!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق