الأربعاء، 19 مارس 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 29- المسلمون بعد الأحزاب-3


قصة أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه


عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟ أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله: (ما عندك يا ثمامة؟) لنتصور حلم ورفق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب رجلاً يعلم أنه جاء ليقتله: (ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي خير يا محمد).

ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً.

هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم).

الثاني: (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك.

الثالث: (وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر.

إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد.

فـ ثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً.

فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء.

تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء! أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال: (إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن،

وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي، وإنما بعد أن رأى الحق رغب فيه وأسرع إلى الإسلام مهما كانت العواقب ومهما كانت النتائج.

وقرر السيد ثمامة بن أثال الذي تعود أن يتبعه الناس أن يتحول من سيد إلى تابع مطيع لهذا الدين الجديد دين الإسلام، فعنده إيمان عميق ومن أول يوم من أيام الإسلام. لقد وقف ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في خشوع أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (أشهد أنه لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، ثم قال: يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، ووالله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي).

في لحظات تبدلت المشاعر والأحاسيس والأمنيات والأهداف هذا هو الإسلام، وهذه هي نتيجة المعاملة بالحسنى، والجدال بالتي هي أحسن، والرفق والحلم مع الناس. ثم قال ثمامة رضي الله عنه وأرضاه: (يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) يعني: أنه كان ناوياً العمرة بعد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الآن صار مسلماً، فهو يسأل: هل يذهب لأداء العمرة أم لا؟ (فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما ذهب إلى مكة) فهو زعيم كبير جداً وكان مقرباً إلى أهل مكة، 

(فلما ذهب إلى أهل مكة وعرف المشركون في مكة أنه قد أسلم، فقال له أحد المشركين: صبوت؟) يعني: تركت العبادة الصحيحة؟ يعني: كما تقول لواحد مؤمن في هذا الوقت: كفرت؟ (فقال ثمامة : لا والله ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: ما كنت عليه من عبادة الأصنام هو الباطل، وأنا في هذا الوقت آمنت حقيقة لا صبوت. ثم أخذ قراراً في منتهى الجرأة والأهمية والتضحية، قال مخاطباً زعماء قريش: (لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم)

هذا قرار عجيب جداً، إنه قرار مقاطعة اقتصادية كاملة لأقوى قبيلة عربية في المنطقة قريش، لماذا هذه المقاطعة؟ لأنها معادية للإسلام والمسلمين، هذا قرار فيه جرأة كبيرة جداً، فهو سيواجه قريشاً بكل قوتها ورجالها وسلطانها وعلاقاتها وتاريخها، وهو سيمنع الطعام عن مكة، وكانت اليمامة المصدر الرئيسي لشعير وخبز مكة، كان يطلق على اليمامة ريف مكة.

هذا القرار فيه إيذاء شديد لمصالح مكة، وحصار اقتصادي مريع لمكة، وهو قرار في نفس الوقت فيه تضحية كبيرة جداً من ثمامة ؛ لأنه ليس فقط سيواجه زعماء مكة أو يفقد علاقات مهمة معهم، ولكنه سيفقد كذلك ثروات ضخمة؛ فـثمامة بن أثال تاجر يعتمد في التجارة على البيع والشراء، فهو الآن يقرر رضي الله عنه وأرضاه أن يخسر هذه التجارة، ويخسر هذه الأموال، ويخسر هذه العلاقات، ولكن كل ذلك في سبيل الله؛ 

إذاً: هو ليس بخسران في الحقيقة بل هو رابح ربحاً عظيماً جداً؛ لأنه ترك تجارة المشركين وتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى. يتعلل الكثير الآن بأننا لا نستطيع أن نقاطع أعداءنا؛ لأننا سنفقد ثروات اقتصادية ضخمة وسنخسر مادياً، والمصانع ستقفل، والتجارات ستقف، أقول: هذه طبيعة الحروب، والنصر لا يأتي إلا ببذل وتضحية في سبيل الله؛ لأن هذا الذي نشتريه بجهادنا بأنفسنا وأموالنا هو شيء ثمين ونفيس جداً، إنه شيء اسمه الجنة، فلا بد أن يكون المدفوع في الجنة كثيراً وعظيماً جداً؛ لأنه كما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فأنت تتاجر مع رب العالمين سبحانه وتعالى، والثمن الجنة.

فثمامة أخذ قراراً ونفذه بالفعل وتمت المقاطعة وعلم بها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وتركها تحدث دون أن يمنعها، ففي هذا الأمر أبلغ الرد على من يقول: إن المقاطعة بدعة، بل على العكس، المقاطعة سنة تقريرية من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. والسنة: هي كل فعل أو قول أو تقرير لرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى حدثاً من أحداث الصحابة فيسكت عنه أو يستحسنه أو يقره بكلمة أو بفعل، كل هذا يحول الحدث إلى سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو رأى منكراً لنهى عنه، فهذا الأمر حدث من ثمامة بن أثال وسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره، واستمر ثمامة في المقاطعة إلى أن حدث أمر غريب.

فما هو الذي حصل بعد هذا من أجل أن نفهم معنى السنة ومعنى البدعة؟ الذي حصل أن المقاطعة أثرت تأثيراً مباشراً قوياً حاسماً على زعماء مكة وعلى شعب مكة بصفة عامة، كادت مكة أن تهلك، وفشلت كل محاولات مكة في إقناع ثمامة بن أثال بالعدول عن المقاطعة؛ لأنه أصر عليها وربط رفع المقاطعة بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على إعطاء مكة الشعير من جديد، وقريش لم يكن أمامها إلا حل واحد، وهو حل عجيب، وأبعد حل ممكن نتصوره، بل أبعد حل ممكن تتصوره قريش نفسها.

ماذا عملت قريش؟ لقد أرسلت وفداً إلى المدينة المنورة؛ ليستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لثمامة بمعاودة التجارة مع قريش، هذا الموقف كان بعد شهور قليلة جداً من غزوة الأحزاب، فقريش تنازلت عن كبريائها وغطرستها وذهبت لتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام وتطلب منه وترجوه وتستحلفه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليأذن له بمعاودة التجارة معها، فكتب له صلى الله عليه وسلم ولم يلمه على المقاطعة ولم يقل: هذا غير صحيح أو غير سنة، بل أذن له أن يعطيهم؛ بسبب الأرحام التي سألوه بها صلى الله عليه وسلم. فهذا أمر واضح جداً في السيرة النبوية، وهو أمر يقبله كل عقل وكل شرع؛ لأنه ليس من المعقول أن الناس تحارب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذبح المسلمين وتحاصر المسلمين وتجوع المسلمين فإذا ما أخذنا قراراً بعدم الشراء منهم سميناه بدعة، هذا أمر غريب جداً على الفقه والفهم الإسلامي. ولا يخفى علينا في هذا الموقف أن نرى رقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وافق على إعطاء قريش مع كل ما فعلته مع المسلمين قبل ذلك، وافق على طلب قريش وأمر ثمامة بإلغاء المقاطعة التي كانت بينه وبين قريش.

فهذا الموقف رفع رءوس المسلمين إلى السماء، لم تعد دولة المسلمين دولة ضعيفة مهيضة الجناح، مهددة من هنا وهناك، لا، بل أصبحت دولة منتصرة تبسط سيطرتها على بقاع متعددة في الجزيرة العربية، يرهبها الصغير والكبير، لها قوة اقتصادية، لها علاقات دبلوماسية، في يدها مفاتيح لتغيير الأوضاع في الجزيرة، وللتأثير على الجميع بما فيهم قريش ذاتها. لقد كانت سرية محمد بن مسلمة سرية بسيطة مكونة من (30) فارساً، لكن إذا أراد الله عز وجل بالأمة خيراً فلا راد لفضله سبحانه وتعالى، ويأتي الخير بأهون الأسباب التي يتوقعها المسلم، بل يأتي من حيث لا يتوقع أصلاً، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: ((  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ))  [الطلاق:3]، والنصر ما هو إلا نوع من الرزق، وكثيراً ما يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق