الأربعاء، 3 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 13- بيعة العقبة الثانية-2



المعالم العامة لوفد العقبة الثانية


كان بين وفد الأنصار المكون من (75) وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وعد في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة، وهم لا يعرفون بماذا سيكلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ماذا يريد منهم؟ كل الذي يعرفونه هو الاتفاق الذي جرى مع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وهذا الاتفاق لم يكن فيه شيء غير العقيدة والأخلاق وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه معظمها تكليفات فردية، ولم يطلب منهم الحرب ولا الجهاد أو أي طلب للنصرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقدراً لوضع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وكان يعلم بأن إمكانياتهم مهما كبرت فإنها محدودة، ولم يطلب منهم أن يستضيفوه هو ومن معه في مكة إلى المدينة المنورة، ومع ذلك ومع عدم التكليف للأنصار إلا أنهم هم من كان يبحث عن النصرة والمساعدة والاستضافة لرسول الله وللمؤمنين في مكة.

هناك كلمة جميلة قالها جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو من الستة الأنصار الأوائل الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة من البعثة، ثم بايعه بعد ذلك في بيعة العقبة الأولى، قال هذه الكلمة وهم ما زالوا في المدينة قبل أن يأتوا مكة، قال جابر: فقلنا: -أي نحن الأنصار- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، يقول: فرحل إليه منا (73) رجلاً!


فالأنصار هم الذين سعوا إلى نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلب منهم ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم أن يأتوا بهذا العدد الكبير في هذا الموسم، لكن هم الذين جمعوا أنفسهم في هذا العدد الكبير من أجل أن يقنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب معهم إلى المدينة، هم الذين بحثوا عن التكاليف والواجبات الشاقة والصعبة في الإسلام.

فارق ضخم هائل بين الذي يبحث عن الدعوة والنصرة والجهاد، وبين الذي يبحث عنه الناس؛ ليقوم بأمر الإسلام والجهاد، فرغبة الأنصار هذه ستفسر لنا مواقفهم التي سنقولها الآن في بيعة العقبة الثانية، وستفسر لنا مواقف الأنصار بعد ذلك في كل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

كان الأنصار أنصاراً للدين بمعنى الكلمة، لم يفكروا في شيء لأنفسهم فحسب، بل عاشوا للدين وللإسلام، عاشوا لغيرهم من المسلمين، ما أبلغ الوصف الذي وصفهم به ربهم سبحانه وتعالى عندما قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، هذه الآية تلخص كل قصة الأنصار، ولن تستطيع أن تستوعب المواقف العظيمة للأنصار إلا في ضوء هذا المعنى الجميل الذي أشار إليه الله عز وجل في كتابه الكريم.


إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار
لموعد بيعة العقبة الثانية



وصل الأنصار إلى مكة مع وفدهم، وبدءوا يرتبون للموعد الذي سيتم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعله في غاية السرية؛ لأنه الموعد الذي يسبق قيام دولة المسلمين، وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يقابل ممثلين عن الخمسة والسبعين؛ لأنهم من بطون مختلفة وفروع مختلفة من الأوس والخزرج، صحيح أنهم يرجعون في النهاية إلى قبيلتين، لكن فيهم بطون كثيرة وفروع كثيرة، ومن الممكن ألا يوافق الكل على جميع الشروط التي سيقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن غير المعقول أن يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم يكتشف أن كثيراً منهم ليس على قدر المسئولية، أو أن فيهم معترضاً على وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على بعض بنود الاتفاق؛ لذا كان لابد أن يقابلهم كلهم، ويتأكد أنهم كلهم موافقون على هذا الموضوع بكل أبعاده، وأن كل واحد منهم سوف يبايعه ويسلّم عليه بيده؛ من أجل أن يؤكد البيعة معه بنفسه، فيطمئن من كل واحد بعينه أنه موافق على كل بنود الاتفاق.

كيف سيقابلهم وهم في زحمة الحج، ووسط مكة الصغيرة؟ كيف سيقابلهم من غير أن يشعر به أحد من أهل مكة؟

أولاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الموعد في آخر ليلة من ليالي الحج، يعني: في ليلة (13) من ذي الحجة؛ لأن الحجاج سيعودون إلى بلادهم في اليوم الثاني مباشرة، فلو أن أحداً من أهل قريش علم باللقاء، فلن يصلوا إلى الوفد إلا بعد رحيله.

ثانياً: أنه جعل ساعة اللقاء في الثلث الأوسط من الليل؛ لأن الأغلب أن كل الناس في مكة سيكونون نياماً في هذا الوقت، فالذي سينام متأخراً سيتأخر نومه إلى الثلث الأول من الليل، والذي سيصحو مبكراً سيصحو في الثلث الأخير من الليل، لكن الثلث الأوسط يكون الناس فيه في الأغلب نياماً.

ثالثاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً بعيداً عن زحمة الحجاج، اختار الشعب الأيمن من العقبة، وهو مكان بعيد، لا يوجد أحد من الحجاج وضع فيه مخيمات.

رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر أحداً من المسلمين في مكة بالموعد إلا ثلاثة فقط، وسيكون لهم دور في الاجتماع، وهذا ليس بشك في المسلمين، لكنه يريد السرية التامة، فمن ليس له علاقة بالموضوع لا داعي لمعرفته، وهؤلاء الثلاثة هم: عمه العباس، وكان في ذلك الوقت ما زال مشركاً، وأبو بكر، وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أما العباس فلأنه سيكون مشاركاً في الاجتماعات، وأما أبو بكر وعلي فلتأمين المكان ومراقبة مداخل الشعب الذي سيتم فيه اللقاء.

خامساً: ليأخذ الأنصار الحيطة أيضاً، فمعهم في الوفد (225) مشركاً في نفس الخيام، ورئيس الوفد مشرك، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول الذي سيكون بعد ذلك زعيم المنافقين، فلابد أن يأخذوا الحذر الكافي.

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه -أحد المشاركين في بيعة العقبة الثانية-: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل -أي: الأول-، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين -القطا: طائر صغير يشبه الحمام-، فكانوا يخرجون واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، إلى أن اجتمعوا كلهم في المكان المتفق عليه.

أتى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الموعد ومعه العباس رضي الله عنه، وبعث أبا بكر وعلياً كلاً منهما على مدخل من مداخل الشعب للمراقبة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق