الاثنين، 1 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 12- بيعة العقبة الأولى-4


دعوة النبي صلى الله عليه وسلم 
لقبيلة بني شيبان ونتائج ذلك

ج2



قال هانئ بن قبيصة: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي، وقلة نظر في العاقبة.
يعني: ليس من المعقول أننا من جلسة واحدة ندخل في الإسلام ونحارب الدنيا بأكملها، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.
يعني: أعطنا فرصة للتفكير، وأنا أعتقد أن هذا انسحاب مؤدب من هانئ.


إذاً: مفروق كان موافقاً، و هانئ متردد، وهو يميل إلى عدم الموافقة الآن، وإذا كانت العملية سيكون فيها حروب، فرأي وزير حربية بني شيبان سيكون مهماً أيضاً، وكان وزير الحربية عندهم هو المثنى بن حارثة رضي الله عنه؛ وقد أسلم بعد ذلك. قال هانئ : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا. المثنى فارس مغوار، وصاحب عقلية عسكرية فذة، وهو مشهور في العرب بذلك.


قال المثنى بن حارثة : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة . يعني: هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه أضاف نقطة مهمة جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه هذا عن الوضع العسكري هو الذي سيجعله في النهاية يأخذ قراراً خطيراً. قال المثنى : إنما نحن نزلنا بين صرتين اليمامة والسماوة. الصرى هو تجمع المياه، يعني: أننا بين تجمعين للمياه، وبالتالي تجمعين للبشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذان الصريان؟ -أي: ما هما التجمعان؟- قال المثنى بن حارثة : أنهار كسرى، ومياه العرب ) .


أي: تجمع دولة فارس، وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية، والجزيرة العربية فيها عشرات القبائل، وهو أراد أن يبين له حدود إمكانياته، وسيعرض عرضاً خطيراً. قال المثنى : فأما ما كان من أنهار كسرى -يعني: دولة فارس- فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول.

يعني: نحن لا نستطيع أن نغضب كسرى فارس؛ لأن الخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم. كان مفروق يقول: نحن أكثر من ألف، لكن عندما تقارن ذلك بجيش فارس فهو أكثر من مليونين، عندما تأتي قبيلة تفتخر أنها أكثر من ألف، وبجانبها دولة فيها مليونا جندي، ليس الشعب وإنما الجنود فقط تعرف أن الفجوة هائلة، وبالحسابات المادية فقط مستحيل أن يصمد أحد أمام فارس، وفوق ذلك فتوقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن تعرف أنه لو غضب كسرى فارس فنحن ليس لنا شأن بك. قال: وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، ألا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، يعني: لا نخترع شيئاً جديداً، ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد، ثم قال: وإني أرى أن هذا الأمر -أي: الإسلام- مما تكرهه الملوك.


وفي النهاية لخص المثنى قراره في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. كان هذا يمثل انتصاراً مهولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطارد في مدينته الصغيرة مكة، ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من المضطهدين، وبقية أصحابه في الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية مثل بني شيبان، ثم الاشتراط الوحيد عدم حرب فارس، كل هذا يجعل العرض منطقياً بل مغرياً،


ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض عرض المثنى بن حارثة وقال في أدب: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق) يعني: جميل جداً أنكم قلتم إمكانياتكم بوضوح، بدلاً من أن تتفقوا معي وبعد ذلك تتخلوا عني، ثم قال كلمة في منتهى الروعة، وهي عبارة عن قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: (فإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ليس من الممكن أن ينصر الإسلام الذي يختار منه شيئاً ويترك آخر، هذا لا يعرف ما معنى إسلام، ولا يعرف معنى العبودية لله عز وجل، العبد لا ينتقي من كلام سيده ما يعجبه ويوافق هواه.

فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرضهم؛ لأن هؤلاء ليس هم من سيحملون الدعوة، فهو يريد رجلاً يقول له: إن الله قال لك اعمل كذا، يعمل ويطيع حتى وإن كان عقله لا يستوعب المراد والحكمة المقصودة من ذلك.
ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين رائع : (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟) يعني: أمة فارس التي تخافون منها ستنهار تحت أقدام المسلمين، ماذا ستعملون حينها، هل ستدخلون في الإسلام؟! قال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.


ولم يمر على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمس عشرة سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدك حصون فارس، وتزلزل عرش كسرى، والغريب أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفاً من كسرى فارس، كان بعد إسلامه أحد القواد الذين أزاحوا كسرى من ملكه، لكن المثنى بعد إسلامه كان شخصاً مختلفاً عما كان عليه قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام.


فشلت المفاوضات، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الموضوع ببساطة؛ لأن القواعد في ذهنه واضحة، ويرى كل شيء بوضوح، لا يفرط ولا يتنازل، وليس هناك من يضحك عليه أو يخدعه أو يخوفه صلى الله عليه وسلم، فهو يعلمنا كيف نبني أمتنا.
وتيقنوا أننا من غير هذه القواعد يستحيل علينا أن نبني الأمة، ومن أجل ذلك نحن ندرس السيرة .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق