الاثنين، 1 أبريل 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 12- بيعة العقبة الأولى-9



إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ 
على يد مصعب بن عمير



من أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب دعوة أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، وهي قبيلة أخرى غير قبيلة أسعد.

ذهب أسعد بـ مصعب إلى حديقة للأوس، وجمع له الذي استطاع أن يجمع منهم، وبدأ مصعب يقرأ عليهم القرآن، كل هذا وسادات الأوس في الحديقة، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا ما زالا مشركين، فسمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد، فغضب غضباً شديداً، وفكر أن يذهب إليهما، لكن أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ فرأى غير ذلك، فقال سعد بن معاذ لـ أسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا، فأخذ أسيد حربته وذهب إليهما، فلما رآه أسعد آتياً من بعيد لم يخف، ولكنه قال لـ مصعب كلمة في منتهى الأهمية، قال له: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.

انظروا إلى فقه أسعد، علم أن الصدق مع الله يفتح القلوب، ويُذكر من؟! يذكر مصعباً القارئ المقرئ، يذكر الرجل الذي عنده علم، لكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
قال مصعب لـ أسعد: إن يجلس أكلمه، فجاء أسيد ووقف عليهما مستعداً للقتال، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
يعني: اذهبا من هنا لو كنتما تخافان على أنفسكما.

كلام غليظ مستفز، لكن قلب مصعب واسع، فقال في منتهى الهدوء وسعة الصدر: أو تجلس فتسمع؟! فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره.
فقال أسيد بن حضير: أنصفت، وجلس وهو مستند على حربته.

بدأ مصعب رضي الله عنه يتكلم عن الإسلام، وبدأ يقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير فتغير وجهه تماماً، وذهب الغضب من وجهه، وبانت عليه سكينة وهدوء، وتأثر لدرجة أن أسعد بن زرارة يقول: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله.

قال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله، وبعد ذلك قال كلمة عجيبة جداً وهو جالس في نفس اللحظة: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ كان الرجل يقف مستعداً للقتال، وفي لحظة ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات بمجرد أن سمع بعض الآيات، وبعد أن جاء ليطردهما وأسعد من الخزرج ومصعب ليس من المدينة أصلاً، لكن كلمات القرآن كانت تنزل على قلب أسيد برداً وسلاماً، غيرته كلية من دينه ومن حياته، يريد أن يدخل في الإسلام مباشرة.

قال له أربعة أشياء: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الرابعة: تصلي ركعتين.
فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، وأصبح أسيد مسلماً.
بهذه السهولة انتقل من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، وما هي إلا دقائق حتى شعر أسيد رضي الله عنه بحلاوة الإسلام، وأحب أن ينقل هذه الحلاوة لمن يحبهم، ولم يصبح مسلماً فقط، بل أصبح داعية، ففكر في سعد بن معاذ، قال أسيد: إن وراءي رجلاً إن تبعكما لن يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما، ذهب أسيد ليخبر سعد بن معاذ، فلما رآه سعد من بعيد، وكان رجلاً ذكياً لماحاً، قال بنظرة واحدة: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، وصدق سعد، لقد ذهب أسيد من عنده بوجه كافر، وعاد إليه بوجه مؤمن، وشتان بينهما،


فقال له سعد: ماذا عملت؟ ففكر أسيد أن يكذب لكي يدفع سعداً للذهاب إلى مصعب، لم يكن يعرف أن الكذب حرام في الإسلام، فبدأ يؤلف قصة، وقال: والله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك.
يعني: لإهانتك.

فأخذ سعد بن معاذ حربته وتوجه إليهما، فلما وصل لم يجد بني حارثة ولم يجد أحداً معهما، بل وجدهما جالسين من غير أي مشاكل، ففهم أن أسيداً كان يدفعه لكي يأتي ويقابلهما، ولم يجد بداً من أن يجلس معهما لكي يطردهما بنفسه.
لما رآه أسعد بن زرارة آتياً من بعيد قال لـمصعب : جاءك والله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فانتظر مصعب حتى جاء سعد، فأتى سعد بسرعة ووجه كلامه مباشرة إلى أسعد، وتجاهل وجود مصعب ، قال: والله! يا أبا أمامة! لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟! وقبل أن يرد أسعد دخل مصعب في الحوار وقال لـسعد : أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
قال سعد بن معاذ : أنصفت،

فجلس سعد وهو مستند على حربته، وبدأ مصعب يتكلم في الإسلام، ويقرأ القرآن، وكما أثر القرآن في أسيد أثر في سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه أيضاً، وظهر على وجهه، يقول أسعد بن زرارة : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله، ثم قال سعد بن معاذ وكأنه يأخذ قراراً سهلاً في حياته، قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟


هذا القرآن! ها هو يحول سعد بن معاذ رضي الله عنه من كافر لا يساوي عند الله شيئاً إلى مؤمن يهتز عرش الرحمن لموته بعد ذلك. قالا: تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك سعد ، وأصبح مسلماً، وكما أصبح أسيد داعية بعد إسلامه مباشرة، كذلك كان سعد بن معاذ داعية بعد الإسلام، ولكنه كان داعية عجيباً، وصنع شيئاً لا يستطيع أحد أن يصنعه في الإسلام في عشرات السنين، وضع مفاصلة عجيبة مع قبيلته، كان من الممكن أن يدفع فيها ملكه وسيادته ووضعه الاجتماعي، كانت هذه المفاصلة وعمره في الإسلام مجرد لحظات، لقد ولد إيمان سعد عملاقاً بمعنى الكلمة.

ذهب سعد إلى قبيلته وقال لهم: يا بني عبد الأشهل! كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، فقال سعد في وضوح وصرامة: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. مفاصلة كاملة عجيبة، ماذا كان سيحصل لو أن القبيلة رفضت الإسلام؟! سيختارون رئيساً غيره، لكن سعداً تغير، ولم تعد الدنيا تساوي في عينيه أي شيء، وشعر أن عمراً طويلاً ضاع منه، وكان كل همه ألا يضيع الباقي، لكن الحمد لله دخلت قبيلة سعد -بني عبد الأشهل- بكاملها في دين الإسلام في يوم واحد، إلا واحداً تأخر إسلامه أربع سنوات وبعد ذلك أسلم.


هل رأيتم النصر، كيف من الممكن أن يكون قريباً؟! قبل دقائق كانوا مجموعة قليلة ضعيفة بسيطة، والآن أصبحوا مئات ومئات، دخلت في الإسلام قبيلة بأكملها برجالها ونسائها وأطفالها وخيولها وسلاحها، وكل ذلك لكي يبين لنا ربنا رسالة مهمة وهي: أن لحظة التمكين بيده سبحانه وتعالى، وممكن أن تكون قريبة وبطريقة لا يحسب لها المسلمون أي حساب، فإن الله يختار الطريقة والتوقيت، لكن المطلوب منا أن نفعل مثل مصعب و أسعد ، نبذل المجهود حسب الطاقة، ونخلص النية لربنا سبحانه وتعالى، ونصدق الله عز وجل، وسيجعل الله عز وجل بعد كل ضيق فرجاً ونصراً.


تغير الوضع في المدينة، وتحولت إلى خلية نحل، فهذا أسعد و مصعب و سعد و أسيد ..وغيرهم، كلهم يعملون في الدعوة، وصل الإسلام إلى كل مكان في المدينة، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، حتى الذي لم يدخل في الإسلام أصبح يسمع عنه، وأصبح واضحاً أن المدينة مقبلة على مرحلة جديدة، وسيكون لها دور كبير في تغيير واقع الأرض كلها، وفي تغيير خريطة العالم، كل هذا في أقل من سنة.


تذكروا معي التاريخ، قبل ثلاث سنوات كان عام الحزن، بكل الهموم والأحزان الذي فيه، ومن سنتين كانوا ستة من الخزرج، ومن سنة كانوا اثني عشر، عشرة من الخزرج واثنين من الأوس، والآن الإسلام دخل كل بيوت المدينة، إن النصر لقريب، لكن المهم أن تعمل.

عاد مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة قبل موسم الحج من السنة الثالثة عشرة من البعثة، عاد ونقل أحداث الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل له الأخبار السعيدة بإيمان الأنصار، ووضح له منعة المدينة في يثرب، ومنعة رجالها، وقوة بأسها وسلاحها، وعرفه مواطن القوة فيها، ومفاتيح التغيير في الرجال هناك، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيل المدينة وهو في مكة وكأنه يراها رأي العين، يراها شارعاً شارعاً ويعرف رجالها رجلاً رجلاً.

ترى ماذا حدث بعد هذا الانتشار العظيم للإسلام في يثرب؟! ما هو رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر؟! ما هي تفاصيل البيعة الخطيرة التي ستحدث في العام الثالث عشر من البعثة؟ (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) غافر :44 وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق