السبت، 13 ديسمبر 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 35- قوة الإسلام-5

قصتان وقعتا بعد غزوة ذات الرقاع


عاد الرسول عليه الصلاة والسلام دون قتال، لكن ترك أثراً لا يُمحى من قلوب غطفان، وشاء الله عز وجل أن يضاعف من هذا الأثر بقصتين حدثتا مباشرة بعد هذه الغزوة أثناء عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غطفان إلى المدينة المنورة.


القصة الأولى

جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن الجيش الإسلامي وهو عائد من غطفان إلى المدينة المنورة نزل في مكان ليستريح، فتفرق الناس في ظلال الشجر ليستظلوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نوماً، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ناموا؛ فالطريق متعب، قال: فجاء رجل من الأعراب المشركين فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم،


وفجأة استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد الأعرابي واقفاً على رأسه بالسيف، فقال له الأعرابي المشرك -وهو من غطفان-: أتخافني؟ الأعرابي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ وهذا السؤال غريب، وكان من المتوقع من هذا الرجل أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك ينال شرفاً كبيراً جداً عند أهل غطفان، لكن الرجل لم يفعل ذلك، وإنما بدأ في حوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لمنع رب العالمين سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أذى الآخرين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] قال له: أتخافني؟ فرد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: لا.


يعني: ما اهتز له جسم ولا دخل في قلبه أي خوف، فتعجب الأعرابي من هذا الموقف، السيف في يده والرسول عليه الصلاة والسلام أعزل وليس معه أحد ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله.

وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الله. الله، فوقع السيف من يد الأعرابي، وفي رواية البخاري أيضاً يقول: إن الأعرابي شام السيف، أي: أنه أغمد السيف ولم يقع منه رغماً عن إرادته؛ تعجباً من ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية التي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله: أنه عندما وقع السيف من يد الأعرابي، فأمسك رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف ورفعه على الأعرابي وقال له: من يمنعك مني؟ فالأعرابي كافر ما استطاع أن يقول: الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، لكن طمع في كرم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: كن خير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال الأعرابي: أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.


أي: أنه لم يسلم، لكنه وعد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يقاتله بعد ذلك، وعلى الرغم من الموقف الشديد إلا أن الأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، ومع ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراحه ولم يعاقبه، وثبت ذلك في البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعاقب هذا الرجل، وعاد الرجل إلى أهله سالماً وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وفي رواية: أن عدداً كبيراً من أهله أسلم، وأن هذا الرجل اسمه غورث بن الحارث.


فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة.


ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.


القصة الثانية

هذه قصة أخرى عجيبة حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أن جيش المسلمين نزل بأحد الأماكن للراحة، فعيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين للحراسة: عباد بن بشر الأنصاري رضي الله عنه، وعمار بن ياسر المهاجري رضي الله عنه، فقسم الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر، فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، ووقف يصلي قيام الليل،


فجاءه أحد المشركين أيضاً من غطفان، ورماه بسهم، فنزع عباد السهم وأكمل صلاته، والدم يسيل منه ويتفجّر، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة فجأة ولكنه أكمل صلاته، ثم أيقظ عمار بن ياسر، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان ورأى الأسهم الثلاثة، قال لـ عباد: هلا أيقظتني أول ما رمى؟ فيرد عباد بن بشر رضي الله عنه في يقين وخشوع ويقول: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها.


وفي رواية ابن إسحاق: قال عباد: وايم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أحب إلي من قطعها. أي: لقطع هذا الرجل حياتي قبل أن أقطع هذه السورة، ولك أن تتصور مدى استمتاع عباد بقراءته، ومدى حبه لقيام الليل، ومدى استغراقه في عبادته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.


والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق