السبت، 13 ديسمبر 2014

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 35- قوة الإسلام-4

إيقاف خطورة قبيلة غطفان
ج2

ومع كل هذه الشدة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع أن تحدث معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة التي تغزى في عقر دارها، ولكن لم يرد ولم ينشب قتال أصلاً لا كبير ولا صغير، فقد آثر أهل غطفان ألا يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين على أقصى تقدير لا يزيدون عن سبعمائة كما ذكرنا، وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عُقر دار غطفان، وفي الطرق والدروب التي خبروها وعرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة جداً، قد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم.


سبحان الله! هذا الأمر في عُرف أهل الدنيا عجيب، كيف يهرب هؤلاء الغطفانيون وهم في هذه الظروف المستقرة من جيش ظروفه صعبة كجيش المسلمين، هذا الكلام وهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، إنه تأييد رب العالمين سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ولعامة المؤمنين الذين ساروا على طريقه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: قبل أن يصل إلى أرض المعركة يكون الجيش الذي هو ذاهب إليه مرعوباً منه.


إذاً: هذا الأمر تأييد رب العالمين لجيش المؤمنين، هذا أمر مفهوم بالنسبة لعموم المؤمنين، ورأوه كثيراً، رأوه في بدر وفي الأحزاب وفي قتال اليهود في المعارك المختلفة بدءاً من بني قينقاع وانتهاء بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أحد عندما كان المسلمون مرتبطين بالله عز وجل، قال تعالى تعليقاً على النصف الأول من غزوة أحد: ((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَاوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)) [آل عمران:151] أي: أن الله سبحانه وتعالى إذا ارتبط به المسلمون ألقى في قلوب أعدائهم الرُعب،


هذا بدون حسابات مادية وبدون أعداد وعدة، فهو أمر غير مفهوم تماماً عند أهل الدنيا، لكنه أمر مفهوم ويقيني عند المؤمنين؛ لأنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى معهم، لكن الجديد في غزوة ذات الرقاع الشعور أن هناك قوة خارقة إلى جانب المؤمنين، وهذا الشعور وجد عند أهل غطفان، وذلك عندما وجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم يرتعبون من غيرهم، فهؤلاء يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، وحياتهم كلها في حرب، وكل عيشهم قتال، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من أربعمائة أو سبعمائة، فإذا كان هذا الرعب من فريق قليل كالمسلمين، فإنه يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وإلى تحليل، هكذا فكّر أهل غطفان،


فغزوة ذات الرقاع هزت قبيلة غطفان من الأعماق، مع أنها غزوة -كما ذكرنا- لم يحدث فيها قتال، لكن نحن تعودنا على أن يأتي النصر من حيث لا نحتسب، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل. فبدأت قبائل غطفان وزعماؤها يفكرون جميعاً بنظرة إيجابية لهذا الدين، مع أنهم لم يأخذوا قراراً سريعاً بالدخول في الإسلام، لكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل.


فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب وجدوا أنفسهم أمام شيء ما قبلوه قبل ذلك، ولم يسمعوا عنه إلا من غير المسلمين، فهم طالما سمعوا عن المسلمين من قريش ومن اليهود ومن غيرهم، لكنهم أول مرة يقابلون المسلمين حقيقة، ودخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ القلوب وعلى دهاة الإجرام أهل غطفان؛ لأن هذا الدين المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا الدين يتسلل إلى القلوب تسللاً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق