الثلاثاء، 21 مايو 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 15- قيام الدولة الإسلامية-2


بناء الدولة الشاملة

ومن المجموعات مجموعة: بناء الدولة الشاملة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء العسكري، البناء القضائي، البناء الرياضي، فالرسول عليه الصلاة والسلام كوَّن دولة شاملة بترتيبات دقيقة جداً وقانون محكم، كل هذا يحتاج إلى تفصيلات لا نستطيع أن نتحدث عنها كلها في هذه المجموعة.

إجمالاً فترة المدينة المنورة بصفة عامة لها سمات تميزها عن فترة مكة المكرمة، ففترة مكة تستطيع أن تقول: إنها فترة بناء الفرد المسلم الصالح المؤمن بربه، والمؤمن برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، المعتقد بالبعث والحساب يوم القيامة، ودخول الجنة أو النار، كانت بناءً للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جداً، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، فمرة عن طريق التخفي، ومرة أخرى عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، ومرة عن طريق الهجرة، فالهجرة إلى الحبشة كانت مرتين، والثالثة كانت للمدينة المنورة.

أما فترة المدينة المنورة فكانت فترة بناء للأمة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكة نبني أفراداً، ففي فترة المدينة المنورة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات. وهذه القضية شاقة عسيرة، لكن بدأها الرسول عليه الصلاة والسلام بصبر، وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير. هذه قضية بناء أمة بكل الأصول والتفريعات، فنحن عندما نريد تأسيس شركة كبرى من لا شيء أمر صعب، فكيف ببناء أمة؟!


إن قصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري المذهل إلا في أمة الإسلام، فبعض الدول قامت بسرعة، لكنها سرعان ما وقعت، ولم تترك خلفها أي تراث حضاري يُذكر، فعندما تريد المقارنة بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار تجد أن أمة التتار أيضاً قامت بسرعة، وانتشرت انتشاراً هائلاً في الأرض، لكن أين تراث التتار الآن؟ أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهت بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي في الإسلام؛ لأن دين الله عز وجل يختلف كلية عن كل قوانين البشر الوضعية، دين غالب قاهر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .


لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة، تحديات داخل المدينة المنورة وخارج المدينة المنورة، داخل الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع، ومن أزمة إلى أزمة أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلامية. هذه ليست حكمة بشرية فقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أحكم البشر وأعلم الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو منهج إلهي صادق بنى الأمة بهذا الإعجاز الواضح وبهذا التوقيت المعجز، ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنورة دولة معترفاً بها في العالم، لها قوة، ولها مكانة، ولها سفراء، ولها مراسلات إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة وقوية مع قوى العالم في ذلك الوقت.

تجربة رائعة حقاً تستحق الدراسة، بل تجب دراسة هذه التجربة، هذا هو الدين الإسلامي حقيقة، الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، الدين الإسلامي منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد والمجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ]الأنعام:162] فقد تعلمنا في فترة المدينة المنورة كيف يكون المحيا لله عز وجل في كل جزئية من جزئيات الحياة.

فترة مكة كان أيضاً يطبق على المسلمين، لكن المسلمين لم تكن عندهم تشريعات ولا دولة، ولم تكن عندهم سياسة واقتصاد وقضاء، هذه الأمور لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن المسلمين كانوا عبارة عن جماعة صغيرة جداً مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضح تمام الوضوح في فترة المدينة المنورة. ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكة التي هي بناء الأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانت على مستوى واحد من الأهمية تقريباً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قوية بغير تربية مكة، ولن تفهم فترة المدينة مطلقاً بدون الرجوع إلى فترة مكة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق