الثلاثاء، 24 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 10

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم
من إرادة سعد بن عبادة مقاتلة أهل مكة يوم الفتح


دخلت الجيوش الإسلامية مكة كما خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم وكانت شوارع مكة في الأغلب خالية من المارة، وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم الأكيدة ألا يحدث قتال، وخاصة في هذا البلد الحرام، فهي أحب البلاد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانه،

من ذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار قال في حماسة عند دخوله مكة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وهذه الكلمات تعبر عن رغبة في القتال، مع أن هذه الكلمات لها خلفية شرعية ولها منطق مقبول إلا أنها لم ترض الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخلفية الشرعية أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن مكة قد أحلت له ساعة من نهار) يعني: القتال في ذلك الوقت قتال شرعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريده فقط عند الاضطرار، وأن الأصل ألا نقاتل،

ولكن منطق سعد بن عبادة هذا منطق مفهوم ومقبول، فالمنطق كان يؤيد هذا الأمر في رأي العموم من الناس؛ فمكة الآن محكومة بأهل الكفر وقتالهم واجب، فهؤلاء هم الذين عذّبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام آذوه وأصحابه قبل ذلك، بل إن سعد بن عبادة قد تعرض لأذى قريش بصورة مباشرة، وارجعوا إلى درس بيعة العقبة الثانية ففي آخر البيعة أمسك المشركون بـ سعد بن عبادة وضربوه ضرباً مبرحاً مع كونه سيد الخزرج، ومن الشخصيات الهامة جداً في الجزيرة العربية، ولا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثراً وأراد أن يعاملهم بالمثل فقال مثل هذه الكلمات،

ومع كل هذه المبررات إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يريد قتالاً فعلاً، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان، وأبو سفيان ارتعب عند سماع كلمة سعد بن عبادة هذه، وأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يستوثق من أمر الأمان لأهل مكة، فقال صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه الكلمات: (اليوم يوم المرحمة) يرد على كلمة سعد: اليوم يوم الملحمة، قال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة)،

فالرسول صلى الله عليه وسلم صحح المفاهيم ولم يكتف بذلك، لقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية فيتساهل في أمر القتال، لذلك نزع الراية منه وأعطاها لغيره، لكن بفقه دعوي رائع جداً أراد أن يطيب خاطر سعد بن عبادة ولا يؤثر على نفسيته وخاصة أنه زعيم الخزرج، فأعطى الراية لـ قيس بن سعد بن عبادة، فكان قراراً في منتهى الحكمة وأرضى به كل الأطراف، أرضى سعد بن عبادة وأرضى نفسه صلى الله عليه وسلم بتنفيذ القرار ألا يقاتل إلا من قاتل، وأرضى أبا سفيان الذي اشتكى إليه هذه الكلمة القاسية عليه، وخاصة أنه قد أعطى أماناً لأهل مكة.


موقف الجيش الإسلامي من مقاومة بعض كفار قريش
ومكانة الفتح في نفس الرسول وصحابته


دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا في جنوب شرق مكة كما ذكرنا عند منطقة اسمها الخندمة، حين تزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش وقاتلوا في هذه المنطقة، والذي دخل من الجنوب من المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقاً قديماً وحميماً لـ عكرمة ولـ صفوان إلا أنه كان متجرداً تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديداً رائعاً تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفار، وهرب صفوان بن أمية وكذلك عكرمة بن أبي جهل هربا من مكة بكاملها، وخمدت المقاومة تماماً في مكة المكرمة، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر صلى الله عليه وسلم ليدخلها آمناً مطمئناً عزيزاً.

لعل هذه هي أعظم لحظات السيرة النبوية فهي اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله عز وجل، ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد، أين أولئك الساخرون من الإسلام؟ أين أولئك المتهكمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين كانوا يقولون: شاعر، أو مجنون؟ أين الزعماء والأسياد والأشراف والقواد؟ أين الجبابرة والطواغيت؟ لا تسمع منهم اليوم إلا همساً.

لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند دخوله مكة كان يستعرض شريطاً كاملاً للذكريات، ومر على ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح، تذكر هنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، ذكريات (25) سنة كاملة، ذكريات الجهاد والصبر حتى الوفاة. هنا مرت لحظات سعيدة جداً على المسلمين، لحظة يوم أسلم الصديق ويوم أسلم عمر ويوم أسلم عثمان وعلي وحمزة وأبو عبيدة وسعد ذكريات جميلة، هنا دار الأرقم بكل ذكرياته الجميلة أيضاً.

وهنا في نفس الوقت الصبر والكفاح والثبات، فمن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضاً إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في هجرة صعبة في مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعاً قد جندوا أنفسهم لحربه أو لقتله، يلتفت إلى مكة حال خروجه منها ويقول: (والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت) وبعدها تمر الأيام وتمر السنين، أحداث ساخنة، ومواقف صعبة، جهاد ومشقة، وعناء وكفاح، لكن ما غابت مكة عن الذهن لحظة واحدة،

وهنا يتحقق حلم السنين، أصبح الأمل واقعاً، وصار الحلم حقيقة، وهناك أناس كثيرون يظنون أن هذا أمر مستحيل، لكن تبقى الحقيقة الواضحة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] إنه نصر الله وتدبير الله وتوفيق الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك تمام الإدراك؛ لذلك لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعاً رأسه متعالياً على غيره، ناسباً النصر لنفسه، حاشا لله، ولكنه دخل مكة دخول المتواضعين لله عز وجل الخاشعين له، خفض رأسه صلى الله عليه وسلم في تواضع حتى كادت أن تمس ظهر دابته، دخل وهو يتلو سورة النصر، فيذكر نفسه ويذكر المؤمنين حوله ويذكر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل ويعلم الناس جميعاً أن النصر من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا قضى شيئاً فلا راد لقضائه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].

وصار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة، ليبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة وربانية التشريع، وليرسّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يوماً تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام ويظهر فيه الدين، ويعز الله عز وجل فيه المؤمنين، ويذل فيه المشركين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كما نسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 9

خطة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية لدخول مكة


عند اقتراب الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بدأ يضع الخطة العسكرية لدخول مكة، فقسّم جيشه إلى أربعة فرق: فرقة على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذه تدخل من جنوب مكة، وهي فرقة فرسان قوية جداً. الفرقة الثانية: على رأسها الزبير بن العوام رضي الله عنه وتدخل من كداء شمال مكة المكرمة، وهي أيضاً فرقة فرسان. وهاتان الفرقتان تحاصران مكة كأنها بين فكي كماشة.

الفرقة الثالثة: هي فرقة من الرجّالة المشاة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. أما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الأنصار رضي الله عنهم وعلى رأسها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه الفرقة كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر الفرق الأربع بالالتقاء عند الصفا، كل فرقة تأتي من ناحية وتدخل مكة المكرمة ثم يلتقون جميعاً عند جبل الصفا بالقرب من البيت الحرام.

فمعظم الناس في مكة استمعوا لكلام أبي سفيان ودخلوا الأماكن الآمنة، إما أنهم دخلوا المسجد الحرام، أو دخلوا بيوتهم، أو دخلوا دار أبي سفيان، لكن بعض زعماء قريش غير أبي سفيان قرروا القيام بمحاولة يائسة للمقاومة لعلها تنجح مع جمع أوباش قريش، يعني: العبيد والفقراء وعوام الناس، فهؤلاء الزعماء يدفعون بهؤلاء الأوباش إلى قتال الجيش الإسلامي، وكان يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وهما من أشهر فرسان قريش، وكانت النتيجة في حسابات زعماء قريش أحد أمرين: إما نصر، وسيكون هذا النصر للسادة، وإما هزيمة فعندها سيسلمون للرسول عليه الصلاة والسلام ما يريده،

ولو كانت الهزيمة قاسية وفقد الجيش؛ لأن الجيش هم من الأوباش الذين لا قيمة لهم عندهم، وهكذا هي الجيوش العلمانية، النصر للسادة، والتضحية والبذل للعبيد، أقصى أحلام الجندي المنتصر في الجيوش العلمانية أن يعطى نيشاناً أو عدة عشرات أو مئات من الجنيهات، وعند الهزيمة يضحون بالآلاف والملايين، أما السادة في الجيوش العلمانية فيحتفلون بالنصر ولا يدفعون أثمان الهزائم، وهذا الكلام خلافاً للجيوش الإسلامية تماماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقاتل مع جنوده كأحدهم تماماً، يعاني كما يعانون ويتعرض للخطر كما يتعرضون، والغنائم في حالة الفوز توزّع على جيش المنتصر، والهزيمة يشترك في دفع ثمنها الجميع.

وهذا الأمر يزرع الانتماء في قلوب الجميع بصورة تلقائية طبيعية، فهذا هو الوضع في الجيوش الإسلامية، لكن الوضع في مكة كان غير هذا، فقد كان الوضع في مكة عبارة عن قبول المعظم من الناس بدخول البيوت وتجنب القتال، إلا فرقة من العبيد والفقراء يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وكانت متمركزة عند منطقة تسمى الخندمة في جنوب مكة، وهذه الأخبار تصل الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم أصدر الرسول عليه الصلاة والسلام عدة أوامر، أصدر ثلاثة أوامر رئيسية:

الأمر الأول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فليس الغرض من الفتح هو الانتقام من أهل مكة، رغم كل التاريخ الأسود لكفارها، لكن الغرض هو حكم هذه البلدة الطيبة بالإسلام، وتعليم الناس دين رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا حكم عام ينطبق على كل الحروب الإسلامية، ورأيناه في جميع الفتوحات الإسلامية.

الأمر الثاني: إذا لقيتم أوباش قريش الذين يقاتلون فاحصدوهم حصداً. في مقابل الرحمة في الأمر الأول هناك الحزم والقوة في الأمر الثاني، فلا بد أن يرى أهل الباطل قوة المسلمين وبأسهم، وعندها ستلين قناتهم، وسيسلس قيادهم، وهذا أحفظ لدمائهم ودماء المسلمين.

الأمر الثالث: إهدار دم مجموعة من كفار مكة، وهذه المجموعة ارتكبت جرائم شنيعة في حق الدولة الإسلامية، وهي جرائم لا تغتفر، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشهور بالرحمة والمعروف بالرفق واللين يقول في حقهم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة) وكانوا بضعة عشر رجلاً وامرأة، وكانت هذه دلالة واضحة جداً على جدية الدولة الإسلامية، وعدم قبول الدولة الإسلامية بأي حال من الأحوال أن يسخر أحد منها أو من رموزها، وخاصة أن معظم هؤلاء الذين أُهدر دمهم كانت جريمتهم هي سب الرسول صلى الله عليه وسلم والسخرية منه، والتعريض به والتهكم عليه،

ولا يخفى على أحد أن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في أي قائد؛ لأنه ليس مجرد زعيم للدولة الإسلامية، بل هو ناقل عن رب العزة، ورسول من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالطعن فيه طعن في دين وشرع وقانون وكيان الدولة الإسلامية، وهو ما لا يجب أن ينسى بسهولة؛ ولهذا كان الأمر الصارم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وبعضهم قتل فعلاً وبعضهم تاب، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلن التوبة الصريحة بين يديه وقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فقد كانت هذه هي أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام للجيش الإسلامي: عدم قتال إلا من قاتل. الشدة والقوة في حق من تصدى للمسلمين إهدار دم مجموعة من مجرمي الحرب المكيين.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 8

لكن هنا ملمح مهم جداً نريد أن نقف عليه وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام، بهذا القرار، وهو قرار تأمين من دخل دار أبي سفيان أو المسجد أو من لزم بيته بهذا القرار يكون قد أصدر قرار حظر تجوّل مؤقت في مكة، ومنع الناس من السير في شوارع مكة؛ لأن هذا القرار سيقصر الأمان على من دخل بيته أو بيت أبي سفيان أو المسجد، أما من لم يدخل بيته وسار في الشارع بغض النظر عما يفعله في الشارع فهو غير آمن، هذا حظر تجوّل ليمنع الناس من أي فرصة للمقاومة، وفي نفس الوقت ليمنع القتل العشوائي في أهل مكة، فهذه عملية عسكرية خطيرة جداً، ونريدها أن تتم بأقل خسائر ممكنة من الطرفين.

وهذا الفعل وإن كان يتبدى فيه الحزم الواضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يظهر الرحمة عنده صلى الله عليه وسلم، فهو لا يريد إراقة دماء أهل مكة، مع أن دماء المسلمين سالت غزيرة قبل ذلك.

إذاً: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرار حظر التجوّل في مكة، وهذا يشبه في زماننا قرار الطوارئ، فأحياناً يتخذ هذا القانون في ظروف صعبة خاصة تمر بها البلد، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يطبّق هذا القانون الخاص الاستثنائي لمدة سنة أو سنتين أو عشرة أو عشرين أو خمسة وعشرين سنة، ولكن طبقه عدة ساعات فقط، وهذا دليل قوته صلى الله عليه وسلم، ودليل قوة حكومته ومدى تجانس هذه الحكومة مع الشعب الذي يُحكم، حتى وإن كان هذا الشعب هو شعب مكة الذي حارب الرسول صلى الله عليه وسلم سنين وسنين. لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك أن طول مدة هذه الطوارئ ستترك انطباعاً سلبياً عند الشعب، يوحي بغياب الأمن والأمان في الدولة، ولهذا سارع بانتهائها.

إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خاطب أبا سفيان في البداية بالقوة والحزم، ثم بعد إسلامه أعطاه شيئاً يفخر به، ويمتلك قلبه بهذا الفخر مع عدم فقد الدولة الإسلامية لأي شيء، بالعكس فقد استخدمه ليفتح الطريق لجيوش المسلمين لتدخل مكة بغير قتال، ومع كون المشهد في ظاهره قد انتهى إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد ألا يترك أي فرصة للشيطان مع أبي سفيان، وقد يكون إسلام أبي سفيان هنا إسلاماً عارضاً جداً للخروج من المأزق فقط، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزلزل معنويات أبي سفيان حتى لا يبقى عنده أي أمل في المقاومة، فماذا فعل الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؟

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يقف بأبي سفيان عند مكان ما يشاهد فيه الجيوش الإسلامية وأعدادها وعدتها وتنوع أفرادها، وتعدد قبائلها، لقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يريه الأحزاب المؤمنة، فشتان بين هذه الأحزاب وبين الأحزاب التي قادها أبو سفيان قبل ذلك؛ ليعلم أبو سفيان أنه لا طاقة له فعلاً بهؤلاء، قال الرسول عليه الصلاة والسلام للعباس: (يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها).

فنفذ العباس الأمر النبوي وأخذ أبا سفيان وأوقفه عند المنطقة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، ووقف أبو سفيان يشاهد العرض العسكري الإسلامي المهيب، جنود الله كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم، وانبهر أبو سفيان فعلاً وفقد كل أمل في المقاومة، وانبهار أبي سفيان ليس لأنه أول مرة يشاهد فيها هذه الأعداد، لا، بل قد شاهد هذه الأعداد منذ ثلاث سنوات تقريباً في غزوة الأحزاب، رأى (10000) مقاتل، بل كان هو يرأسها جميعاً، وإنما انبهر لأمور:

أولاً: لأن الله عز وجل يلقي الجلال والرهبة والهيبة على جنوده سبحانه وتعالى، وفي ذات الوقت يلقي الرعب في قلوب أعداء الدين، فيرون أحد المسلمين عشرة، ويرون القوة اليسيرة من المسلمين قوة هائلة .. وهكذا.

ثانياً: أنه رأى في هذه الجيوش عدة قبائل كانت تربطه بهم علاقات قوية جداً، لم يكن بينه وبينها عداء يذكر، فإذا بهذه القبائل جميعاً تجتمع تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: وحدة الصف التي رآها أبو سفيان، واجتماع الجميع على قلب رجل واحد، والألفة والمودة والصلابة في مشيتهم وفي تصميمهم، وهذا الكلام كله يزلزل أبا سفيان ..
مشهد يدعو إلى انبهار أي مراقب. لا شك أن انبهار أعداء الأمة بالصف المسلم المتحد أمر لا ينكر، فكم رأينا من قوى عالمية تخشى طائفة يسيرة من المسلمين لا لشيء ولكن لقوة إيمانهم ووحدة صفهم وحسن إعدادهم، والتاريخ يتكرر.

ننتقل إلى وصف العباس رضي الله عنه لحالة أبي سفيان عند رؤية الجيوش الإسلامية. قال العباس: ومرت به القبائل على راياتها، فكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة الأخرى فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ .. ، وهكذا كلما مرت قبيلة سأل من هؤلاء؟ فيرد العباس بنو فلان .. وهكذا، فيقول: ما لي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء، وهذه الكتيبة فيها المهاجرون والأنصار كما يقول العباس بن عبد المطلب: لا يرى منهم إلا الحدق.

أي: أن الكتيبة مغطاة بالدروع والسلاح لا ترى إلا أعينهم من خلال الدروع، قال أبو سفيان وهو في أشد حالات الانبهار: (من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان في منتهى اليأس: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، فقال: فنعم إذاً، قلت: النجاء إلى قومك، قال: فخرج أبو سفيان حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به)، وهنا يحقق الغرض الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أجله أعطاه هذا الفخر، فهذا يمنع قريشاً من المقاومة، ويحقن دماء قريش ودماء المسلمين جميعاً، فقه سياسي عال جداً، قال: هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، ثم قال: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

ولم يقل: من دخل داره، ولكنه اكتفى بما هو له؛ ليظهر فخره: فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته وهي هند بنت عتبة وهي من أشد المقاومين للإسلام ومن أشد المحاربين له، فأخذت بشاربه وقالت للجميع: اقتلوا الدسم الأحمس -أي: السمين- فبئس من طليعة قوم، ثم قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فتجمع الناس عليه وقالوا له: ويلك وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس ودخلوا دورهم والمسجد. لقد أصبح أبو سفيان في نهاية اليوم مدافعاً عن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، فاتحاً الطريق له.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 7

قصة إسلام أبي سفيان ودوره في فتح مكة


لقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام الإسلام على أبي سفيان بمنتهى القوة، فهو يعرض عليه الإسلام لنجاته وإلا فالأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حل من دماء قريش؛ لأنهم خالفوا صلح الحديبية وقتلوا رجالاً من قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، فعرض عليه الإسلام بصيغة فيها ترهيب واضح قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) تهديد واضح، ذهب وقت الإقناع والمحاورة، والآن نحن على أبواب حرب، وأبو سفيان ليس بالرجل السهل فهو من دهاة العرب، واستطاع أن يقوّم الموقف بأسرع وقت وبصورة واقعية،

ولذلك تلطّف في الحوار وأجاب بصورة تجمع بين الموافقة وعدم الاقتناع الكامل، فقال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً)، وبعد مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجاوب إجابة مباشرة قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن قال: لو كان هناك آلهة أخرى كاللات أو هبل أو غيرهما لدافعت عنا، فانتقل معه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النقطة الأصعب: وهي الاعتراف بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام: لأن العرب ما كانوا ينكرون أن الله عز وجل هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، أما قضية النبوة والرسالة فهذه كانت مرفوضة عندهم تماماً،

فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟) فـ أبو سفيان حتى هذه اللحظة لم يقتنع بقضية الإيمان، وهو لا يريد في نفس الوقت أن يكذب وهو سيد قريش، وكان كما يقول عن نفسه: وكنت امرأ أتكرم على الكذب، وفي نفس الوقت لا يريد أن يأخذ موقفاً حاداً تكون فيه نهايته، وإنما قال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، هذه والله كان في نفسي منها شيء حتى الآن)، أي: أنه وإلى هذه اللحظة لم يكن مقتنعاً بنبوته صلى الله عليه وسلم، فهو متردد، لا يتصور أبو سفيان أن تنهار مقاومته كلها في لحظة،

وهنا تدخل العباس رضي الله عنه ليدرك أبا سفيان فـ العباس مدرك صعوبة الموقف، واحتمال قتل أبي سفيان وغزو مكة وإهلاك قريش احتمال وارد جداً، وعمر بن الخطاب صرّح بذلك في اليوم الذي قبيل هذا اليوم، فقال العباس في منتهى القوة: (ويحك يا أبا سفيان أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك)، وهذا ليس إكراهاً في الدين، بل هو رحمة؛ لأن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد؛ فهو يسمى في أعراف الدول: بمجرم الحرب؛ لأنه دبر اغتيالاً جماعياً قبل ذلك لسكان المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، هذا غير فتنة الناس عن دينهم طول سنوات مكة والمدينة، غير نقضه العهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، فقد أصبح حلال الدم، وهذا في عرف الجميع مقبول،

وإسلامه يرفع عنه عقوبة مستحقة وله الخيار، فـ أبو سفيان رجل واقعي فقد أدرك خطورة الموقف ولذلك نطق بالشهادتين مباشرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلن إسلامه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، والعباس رضي الله عنه صديق قديم لـ أبي سفيان، ويرى الأزمة التي وضع فيها أبو سفيان، ويرى الانهيار الذي تعرض له، ولهذا طلب العباس رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام طلباً ليخرج أبا سفيان من هذه الأزمة، فقال: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً)،

هنا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في الأمر، ومن الواضح أن إسلام أبي سفيان كان إسلام اضطرار، فهو لم يقتنع بعد بالنبوة، ولم يشعر بالانتماء الحقيقي للنظام الجديد، فقد ينتهز أي فرصة للانقلاب على المسلمين، وأبو سفيان عظيم مكة لعدة سنوات، فإن لم ينزله صلى الله عليه وسلم منزله فإن هذا سيؤثر سلباً لا شك على أبي سفيان وعلى أهل مكة جميعاً،

ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أعطى أبا سفيان شيئاً فهو سوف يستخدمه لصالح الإسلام، وسيكون أبو سفيان من رجاله وولاته بدلاً من أن يكون من أعدائه، وقد يرى ذلك بقية زعماء مكة فيطمعون في شيء من سلطان المسلمين كما أخذ أبو سفيان؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يعطيه شيئاً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يملك مالاً كثيراً يليق بزعيم مكة، ولا يستطيع أن يعده بإمارة؛ لأنه لم يستوثق بعد من صدق إيمانه؛ لأن الظاهر أنه أسلم مضطراً، وقد يؤذي المسلمين بإمارته سواء على مكة أو غيرها،

ففكر الرسول صلى الله عليه وسلم في إعطائه شيئاً ينفع ولا يضر، قال صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن) فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بخصيصة تجعله مميزاً على أقرانه من أهل مكة، وهي أن داره أصبحت مأوى لأهل مكة وأماناً لهم، لكن المتدبر حقيقة في الأمر يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه شيئاً بلا خسارة، هذا الشيء لا يقدم ولا يؤخر كثيراً عند المسلمين، بينما هو يكسب قلب أبي سفيان؛ لأن أي إنسان يُغلق عليه بابه سيكون في نفس الأمن الذي في دار أبي سفيان،

أي: أنه ليس هناك مزية واضحة، لكن جعل له نوعاً من الفخر والشرف الذي ينفع ولا يضر، وهنا نجد التوازن الرائع، ونجد أيضاً أن أبا سفيان بهذه المنحة التي أعطاها له الرسول صلى الله عليه وسلم سيدخل إلى مكة دافعاً للناس أن يدخلوا بيوتهم، وألا يقاوموا، وفي هذا تسكين لثورة الغضب في داخل مكة المكرمة، وفي هذا تسهيل لفتح مكة المكرمة دون خسائر كبرى، إنها حكمة سياسية هائلة، وفقه دعوي على أعلى مستوى.

يتبع....



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 6

التقاء القبائل عام الفتح بالرسول صلى الله عليه وسلم
بمر الظهران وموقف زعماء مكة منها


وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مر الظهران، ومر الظهران على بعد (22) كيلو من مكة المكرمة، وهناك التقت الجنود من القبائل المختلفة من قبائل فزارة ومن قبائل بني سليم ومن غطفان ومزينة وجهينة ومن المدينة المنورة من كل مكان، عشرة آلاف جندي، هذه هي الطاقة الإسلامية، وهذا الوضع كنفس الوضع الذي كان في غزوة الأحزاب ولكن بصورة عكسية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] قبل الفتح بثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد لكن شتان بين الفريقين.

أراد الرسول عليه الصلاة والسلام لقريش هزيمة نفسية؛ لكي يدخل مكة بأقل الخسائر الممكنة، فأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في فكرة نبوية عبقرية رائعة أن يشعلوا النيران جميعاً، أي كل فرد منهم يشعل شعلة ويرفعها بيده، فأصبحت عشرة آلاف شعلة من النيران، فالنيران بحد ذاتها مرعبة، فإذا رآها الناس شعروا بالرهبة، وهذه الفكرة كانت مثيرة ومرعبة لأهل قريش، وشاهدوها جميعاً؛ لأن المسافة (22) كيلو بين جيش المسلمين وبين مكة فهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيه النيران، ومع هذا كان من قريش المراقبين والجواسيس على مقربة من مر الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان شخصياً،

وتصور مدى الهلع والرعب عند سيد قريش وعند زعيم مكة الذي يدفعه أن يخرج بنفسه ليراقب أحوال المسلمين، وكان معه بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكرنا قبل هذا أن بديل بن ورقاء كان صديقاً شخصياً لـ أبي سفيان ومع أن بديلاً استغاث بالرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن يتوقع أبداً أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش يفتح مكة المكرمة عقر دار قريش، كان كل أحلامه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيطلب من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، لكن الآن يشاهد جيشاً كبيراً أتى إلى مكة المكرمة.

وهنا يأتي كلام العباس رضي الله عنه وأرضاه عن هذا الموقف العجيب، وهذا في الطبراني بسند صحيح عن العباس رضي الله عنه، فـ العباس عندما رأى عشرة آلاف جندي على أبواب مكة المكرمة، ومع ذلك فـ العباس لا يزال حديث الهجرة، بل قد يكون حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية جداً، وإسلامها لا شك أنه أفضل من قتلها، ثم هم الرحم والأهل والعشيرة، فأول ما رأى هذا العدد يقترب من مكة المكرمة قال: وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

فبدأ يبحث عمن يخبر قريشاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جاء ليخرجوا ليستأمنوه، فهو الآن لا يدل على أسرار الجيش؛ لأن الجيش قد كشف أمره، فقد أشعل عشرة آلاف شعلة حول مكة المكرمة، فليس هناك أي نوع من التخفي، فالآن هو يريد لقريش أن تستأمن لنفسها، فركب بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يبحث عن أي إنسان يصل بخبر إلى مكة المكرمة، فسمع همسات من رجلين يتحدثان فأحدهما كان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً، فرد عليه صوت آخر وقال: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب.

أي: أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الأول: خزاعة! والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فسمعهم العباس بن عبد المطلب فعرف الصوت فناداهما، فكان الصوت الأول أبا سفيان والصوت الثاني بديل بن ورقاء الخزاعي، وكما ذكرنا أن بديل بن ورقاء يعيش في داخل مكة المكرمة؛ فهو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة جاءت بجيش أو غير خزاعة؟ المهم أن العباس رضي الله عنه لما ناداهما فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل؟ -أي: العباس بن عبد المطلب - فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك، فوافق أبو سفيان دون تردد؛ لأن موقفه صعب جداً فهو زعيم قريش.

فوافق دون تردد وانصاع لنصيحة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وركب خلفه على بغلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع بديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي ذهابهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كانا كلما مرا على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فيقولون: هذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن مرا على نار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال: من هذا؟ وقام إليه فرأى العباس ووجد خلف العباس أبا سفيان،

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منتهى القوة: أبي سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فقرر عمر بن الخطاب قتل أبو سفيان، فرأى العباس موقف عمر بن الخطاب فأسرع بأبي سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسرع عمر بن الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يصل قبل العباس، لكن العباس دخل على الرسول عليه الصلاة والسلام قبل عمر بن الخطاب، إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم قبل أن يتكلم العباس، وقال: (يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه).

يعني: تاريخ طويل بين أبي سفيان وبين المسلمين، هناك حروب متتالية قادها أبو سفيان ضد المسلمين، وذكريات أليمة عند المسلمين من وراء أبي سفيان، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الموقف أراد أن ينتصر لله عز وجل ويقتل أبا سفيان، لكن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إني أجرته، ثم جلست إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذت برأسه فقلت: لا والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف، قال عمر بن الخطاب: مهلاً يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم -الذي هو أبوه شخصياً- قال عمر: وما به إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب)،

وهذا الكلام صدق من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبح فائتني به) أي: أنه صرف أبا سفيان مع العباس بن عبد المطلب وعاد عمر بن الخطاب إلى رحله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في القضية. فنحن نعذر عمر في موقفه؛ لأن أبا سفيان كان قد قاد الحرب ضد المسلمين في السنوات الست الأخيرة، وارجعوا إلى الحوار الذي دار بين أبي سفيان وبين المسلمين بعد غزوة أحد، لتروا مدى الشماتة التي كانت عنده في المسلمين، ومدى رضاه بالمثلة التي حدثت للشهداء، وخاصة أن المثلة حدثت في أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمزة بن عبد المطلب وحدثت في أصحابه الشهداء، وهم (70) شهيداً مثِّل بهم في غزوة أحد، وارجعوا أيضاً إلى غزوة الأحزاب ورغبة أبي سفيان الأكيدة في إهلاك جميع المسلمين، وكل هذا تاريخ طويل جداً لأبي سفيان مع المسلمين.

وإن كنا نعذر عمر في هذا التصرف وهذا العرض الذي قدّمه لقتل أبي سفيان في ذلك الوقت الذي ليس له عقد ولا عهد، إلا أن موقف العباس كان أفضل في هذا المقام لأمور:

أولاً: قد يسلم أبو سفيان ويحسن إسلامه. فكسب مسلم إلى الصف خير من قتل كافر، ونجاة إنسان من النار خير من سقوطه فيها، مهما كان هذا الإنسان.

ثانياً: أن هذا أصلح لقريش؛ لأن إسلام أبي سفيان قد يؤدي إلى إسلام قريش، فتنجو قريش بكاملها في الدنيا والآخرة، وتضاف قوة قريش إلى قوة المسلمين، وهذا نصر كبير.

ثالثاً: هذا أحفظ لدماء المسلمين؛ لأن أبا سفيان قد يمنع قريش من المقاومة، وبهذا يسهل عملية فتح مكة، أما قتل أبي سفيان فقد يثير قريشاً؛ لأنه زعيمهم، وقد يثير بني أمية، لأنه أيضاً من أكبر رءوس بني أمية، فقد تدور حرب الله عز وجل أعلم بعواقبها. ومما يؤكد أن رأي العباس كان أفضل في هذه القضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام مال إلى هذا الرأي، ولكنه تعامل صلى الله عليه وسلم مع القضية بتوازن رائع يجمع بين الترهيب والترغيب، ويجمع بين القوة والرحمة، ويجمع بين الذكاء السياسي والفقه الدعوي، فموقفه مع أبي سفيان في اليوم التالي والحوار الذي دار بينهم من أروع مواقف السيرة.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 5

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم
حين شق الصوم على أصحابه بكراع الغميم


أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق، وكما ذكرنا أن هذا الخروج كان في رمضان سنة (8 هـ)، وصام الجيش معظم الطريق حتى وصلوا إلى كراع الغميم، وكراع الغميم تقريباً على بعد (60) كيلو أو أكثر من مكة المكرمة، وفي كراع الغميم جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ورفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، وهذا في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

نجد في هذا الموقف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مقارنة سريعة هامة بين الصوم وبين الجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة جداً، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، كذلك الجهاد عبادة عظيمة جداً، وهو ذروة سنام الإسلام، وصرّح الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا يعدله شيء أيضاً كما في البخاري عن أبي هريرة، فهو في هذا الموقف يقارن بين عبادتين عظيمتين، وهذا الموقف كان محيّراً للبعض إلا أن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك دعا بقدح فيه ماء فشرب وهو صائم، مع أن الموقف كان بعد صلاة العصر، ولم يبق إلا قليل ويدخل وقت المغرب، لكن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين:

أولاً: هناك ما يسمى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم الآن، وأشياء أخرى من الممكن أن تؤخر إلى وقت لاحق، فتأخير الصيام لا يضر، لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، لكن الجهاد الآن لا يؤخر، وخاصة أن الجيش على بعد (60) كيلو من مكة المكرمة.

ثانياً: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، هذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، لكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، وواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.

ثالثاً: أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فحسب، ومع ذلك ترى الكثير من المسلمين يقصر التزامه بالإسلام على الصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك من الشعائر، نقول: الإسلام دين جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، ونحن رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يؤخر عبادة وشعيرة هامة جداً ليقوم بأمر آخر من الإسلام أيضاً في صالح الأمة ألا وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد من الإسلام، والسياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام وهكذا؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام أفطر وأمر الناس بالإفطار وهذا بعد وقت صلاة العصر، بل إن في صحيح مسلم: (أن بعض الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بعض الصحابة لم يفطروا مع الناس)، ماذا علّق صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل؟

قال صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة أولئك العصاة) مع أنهم لم يرتكبوا ذنباً، لكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة لا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فسمّاهم صلى الله عليه وسلم العصاة، مع أنهم يصومون رمضان في رمضان، وهذا يحتاج إلى تدبر عميق وفقه؛ لكي نستطيع فهم الأبعاد التربوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.



الأحد، 22 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 4


استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفتح مكة


أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم استنفاراً عاماً على كل المستويات لكل أهل المدينة المنورة، وإرسال استدعاءات للمسلمين في القبائل المختلفة، وممن أرسل إليهم غطفان، وأرسل إلى بني سليم، وإلى فزارة، وهؤلاء هم الأحزاب الذين حاصروا المدينة منذ ثلاث سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع هذه القبائل على التلاقي عند مر الظهران، ومر الظهران على بعد حوالي (22) كيلو من مكة المكرمة،

أي: أن هذه القبائل ستأتي من طرق مختلفة؛ لكي لا تستطيع عيون قريش تقدير عدد الجيش المسلم، وفي نفس الوقت أخرج الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها أبو قتادة رضي الله عنه للتمويه، أرسل هذه السرية إلى اتجاه بعيد عن اتجاه مكة المكرمة؛ ليلفت أنظار القرشيين إلى أنه لا يريد مكة المكرمة، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالسرية التامة، وبعدم إخبار أي إنسان خارج المدينة المنورة بأمر هذا الغزو لمكة المكرمة، ثم رفع يده إلى السماء ودعا وقال: (اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة) وبدأ الإعداد الضخم للخروج من المدينة المنورة.

في ذلك الوقت حدثت قصة لا أريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأني سأحيلها إن شاء الله إلى مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، لكن نمر سريعاً على هذا الحدث، فالحقيقة أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه أخطأ خطأ كبيراً بإرادته بكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش، فهو أرسل إليهم رسالة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، ولماذا فعل هذا؟

لأن له عائلة بمكة المكرمة وخشي عليها من بطش قريش، وليست له قبيلة كبيرة بمكة تدافع عن أسرته، فهو رجل حليف ليس من أهل مكة الأصليين، وهذا الأمر لا يبرر أبداً له هذا الخطأ الكبير، لكن هذا هو الذي حصل، ونزل الوحي يكشف للرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، واستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل من يأتي بالرسالة التي أرسلها، وأحبطت هذه المحاولة، وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنه من المنافقين، بل هي لحظة ضعف خاف فيها على أسرته،

ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عفا عنه وتجاوز عن هذا الخطأ؛ لسابق تاريخه رضي الله عنه في الإسلام، وكما هو معروف أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام منع عمر من إيذائه وقال له: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع على قلوب من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، هذا الحدث يحتاج إلى تفصيل، ولكن كما قلنا سنتحدث عنه بالتفصيل في مجموعة أخطاء المؤمنين.


خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة وكان هذا الخروج في (10) رمضان سنة (8هـ)، واتجه مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت البشريات تتوافد على المسلمين أولاً في طريقه وبمجرد أن خرج من المدينة المنورة لقي العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فقد كان تأخر إسلام العباس رضي الله عنه وأرضاه علامة استفهام كبيرة جداً،

حتى إن هناك من قال: إنه قد أسلم أيام بدر، ولم يفسّر تفسيراً واضحاً بقاءه في مكة المكرمة دون هجرة كل هذه السنوات، وهناك من قال: إنه بقي في مكة لنقل الأخبار للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يقم أحد الأدلة على ذلك، لكن الحمد لله أنه هاجر قبل أن يصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، وذلك أسعد الرسول عليه الصلاة والسلام جداً، وسر سروراً عظيماً برؤية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسيكون له دور إيجابي كما سنرى ذلك في فتح مكة المكرمة.

ثم أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام الطريق وقد زادت قوة المسلمين بـ العباس رضي الله عنه، فوجد رجلين آخرين: أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، والآخر ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذان الرجلان كانا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام،

وتخيل من شدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام رفض عليه الصلاة والسلام أن يقابلهما، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يفرح كثيراً بمن أتى إليه مسلماً، إلا أنه رفض في البداية مقابلتهما من شدة إيذائهما له في فترة الفترة المكية، لولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها وكانت مصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح فتوسطت لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابلهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منهما الإسلام بعد أن أعلنا التوبة الكاملة بين يديه صلى الله عليه وسلم. فهذه كانت بشريات، وبدأت بشائر مكة تظهر، ومن الواضح أن أثر الخيانة التي حدثت في مكة واضطراب الوضع فيها والهزيمة النفسية عند أهلها أثرت كثيراً على معنوياتهم، فبدءوا بالتفكير بجد في قضية الإسلام.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 3


فأبو سفيان لما لم يتفاوض معه الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقبل أن يرد عليه أصلاً، خرج بهذه الأزمة النفسية الكبيرة إلى أبي بكر الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن كنا نتوقع من أبي سفيان أن يعود أدراجه إلى مكة المكرمة وقد غضب غضباً شديداً وثار ثورة كبيرة، وينقلب بجيشه على المدينة المنورة ثأراً لكرامته، لكن كل هذا لم يحدث؛ لأنه ضعيف جداً، ويعلم أنه ضعيف أمام هذه الصلابة الإسلامية الواضحة، فذهب أبو سفيان إلى أبي بكر وطلب منه نفس الكلام، لكن الصديق رضي الله عنه قال له في صرامة واضحة: ما أنا بفاعل.

يعني: لن أتوسط بينك وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج أبو سفيان من عند أبي بكر بالصدمة الثالثة. أول صدمة كانت لأبي سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، والثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالثة مع أبي بكر، ومع ذلك لم ييئس أبو سفيان واتجه إلى الوزير الثاني في الدولة الإسلامية وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليته ما فعل، فأول ما ذهب وطلب منه نفس الطلب أن يطيل المدة بينه وبين المسلمين، قال عمر بن الخطاب بمنتهى القوة: أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به.

انظروا إلى قوة وصلابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهذه هي الصدمة الرابعة التي أخذها أبو سفيان في المدينة المنورة، وأيضاً لم ييئس بل خرج من عند عمر بن الخطاب واتجه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسيدنا علي متزوج من السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل عندهما، وكان عندهما الحسن رضي الله عنه يلعب بينهما، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً. انظروا إلى هذا الذل من أبي سفيان، ثم يقول: فاشفع لي عند محمد، فقال علي بن أبي طالب: ويحك أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.

يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام عندما سمع بخيانة بني بكر وقريش وقتلهم لرجال من خزاعة وصل إلى درجة من الغضب ما نستطيع أن نكلمه، ولا نعلم ماذا سيفعل صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الصدمة الخامسة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة رضي الله عنها وقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟


أي: أن الطفل الصغير الحسن بن علي رضي الله عنهما يخرج ليجير أبا سفيان وأهله وقومه وقريشاً، فقالت السيدة فاطمة: والله ما بلغ ابني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الصدمة السادسة، فقال أبو سفيان ليأخذ الصدمة السابعة والأخيرة وهو يخاطب علي بن أبي طالب قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، فقال: أوترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي بن أبي طالب في منتهى الوضوح: لا والله، ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك، ومع هذا الإحباط الذي أصاب أبا سفيان إلا أنه قام فعلاً في المسجد وقال: يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، فلم يقم أحد من المسلمين.

هذه سبع صدمات وضربات متتالية لأبي سفيان زعيم قريش، ولم يجد أي أمل، فكّر في الرجوع إلى مكة المكرمة، وبالفعل صعد على بعيره، وفي طريقه إلى مكة مر على سلمان و صهيب و بلال رضي الله عنهم وأرضاهم، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.

كان هذا الكلام من هؤلاء الثلاثة: سلمان و صهيب و بلال، وهؤلاء كانوا من الذين يُباعون ويُشترون، فمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهم وهم يقولون ذلك، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ أي: أن أبا بكر تأثر لأبي سفيان، وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: إن سلمان و صهيباً و بلالاً قالوا كذلك وكذا لأبي سفيان.

فماذا كان رد الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم)، لم يقف صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق في رأفته ورحمته لأبي سفيان، إنما وقف مع سلمان و صهيب و بلال يقدّر موقفهم، وفي نفس الوقت يؤثر نفسياً على أبي سفيان قال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؛ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر وقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي).

فالشاهد من القصة أن الموقف ليس موقف دعوة الآن، ولكنه موقف تجهيز لحرب، فالأموال والديار والحقوق المسلوبة آن لها أن ترجع، وإن كنا قد قبلنا في الحديبية أن نقر الهدنة دون عودة كامل الحقوق، فإن ذلك كان لظروف المرحلة السابقة، وتقديرنا لقوتنا وقوة عدونا في ذلك الوقت، أما الآن فالظروف قد تغيرت ولن نقبل بما قبلنا به قبل ذلك أيام الحديبية، ولهذا كان هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.

ثم عاد أبو سفيان إلى مكة وفشلت مهمته فشلاً ذريعاً وخسر أكثر مما كسب، وعندما عاد إلى مكة المكرمة ودار بينه وبين زعماء قريش الحوار قالوا له: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلّمته فوالله ما رد عليّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيراً، ثم جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بأمر صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا، قالوا: فبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: هل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، فقال أبو سفيان: لا والله ما وجدت غير ذلك.

أي: أنه لم يكن هناك أي حل إلا أن يعمل هذا، مع أنه لن يجد فائدة، هكذا وضعت قريش في مأزق خطير، وعلمت قريش أن هناك احتمالاً كبيراً جداً لغزو مكة المكرمة، وبدأت قريش تترقب قدوم المسلمين، وهي لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فلم يعد من أعوانها إلا بنو بكر، ولم يعد أمامها إلا الانتظار، هذا هو الموقف في مكة. وهنا ننظر ما الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد عودة أبي سفيان إلى مكة المكرمة؟




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 2


موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته
من أبي سفيان حين جاء إلى المدينة ليطيل مدة الهدنة


ذهب أبو سفيان إلى المدينة المنورة يحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من الانتقام لخزاعة والثأر لكرامته وكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأي ثمن. ومن هذا الحدث سنأخذ قاعدة مهمة جداً، وهذا القاعدة ليست فقط في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها ستظل معنا إلى يوم القيامة وهي: إذا كان عدوك حريصاً على السلام وحريصاً على تجنب الصدام بكل ما أوتي من قوة ويدفعك إليه دفعاً فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك فلا تضعف ولا تجبن.

فأتى أبو سفيان كي يحاول قدر المستطاع أن يتجنب الصدام، وسنجد الوقفة الإسلامية أمام أبي سفيان، في بداية دخوله إلى المدينة المنورة ذهب إلى ابنته، وبنت أبي سفيان كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين، والتقى أبو سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب (16) سنة متصلة، فقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها هاجرت إلى الحبشة، وبقيت في الحبشة فترة طويلة من الزمان، ثم تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وأتت إلى المدينة المنورة، ولم تمر بمكة منذ (16) سنة متصلة،

فالعلاقة بينها وبينه منقطعة فترة طويلة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة ستستقبله استقبالاً حافلاً فهو أبوها، ومنذ فترة طويلة من الزمن لم ير أحدهما الآخر، لكن عندما أراد التحدث معها وأراد الجلوس على الفراش، فإذا بها تطوي الفراش وتمنعه من الجلوس، فاستغرب أبو سفيان فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال أبو سفيان: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج.

لنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة، فقد يقول المحلل لهذا الموقف، إن هذا الموقف فيه نوع من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان، والواقع أن في مثل هذه الظروف تكون الغلظة؛ فـ أبو سفيان ليس إنساناً عادياً، بل زعيم مكة، والجميع في المدينة المنورة يعلم أن هناك نقضاً للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وبين قريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، والرسول عليه الصلاة والسلام قد أنبأهم بذلك قبل أن يأتي أبو سفيان في معجزة نبوية ظاهرة، قال صلى الله عليه وسلم: (كأنكم بـ أبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة)،

فعرف المسلمون أنه أتى لهذا الغرض، لذلك أرادت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعاً صف واحد، وأنهم جميعاً على قلب رجل واحد، حتى إن ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وقفت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ضد أبيها أبي سفيان، فهذا ترك انطباعاً وتصوراً سلبياً كبيراً جداً عند أبي سفيان، فقد عرف أنه يقف أمام أناس من الصعب أن يحاربهم، وليس هذا السلوك الإسلامي العام مع الرحم المشرك أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله عز وجل أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]،

والذي يؤكد على هذا المعنى ما جاء في البخاري عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: أنها جاءت في نفس فترة صلح الحديبية، فالسيدة أسماء سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صليها)، وهذا هو الأصل في المعاملة، لكن موقف أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان موقف مختلف، كان موقفاً صحيحاً بدليل سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها.


ثم خرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة، واتجه مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليحاول أن يطيل المدة كما ذكرنا، فتحدث أبو سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر له رغبته، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يرد عليه، حتى مجرد الرد لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو التصرف المعتاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن استقبال الضيوف ويُكرم الضيوف، وخاصة أن هذا زعيم من زعماء قريش، وكان يستمع منهم الرسول عليه الصلاة والسلام ويقبل منهم ويتحاور معهم،

لكن في هذا الموقف لم يحدث؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يفتح مكة، فهو يريد أن يستغل هذه الفرصة السانحة، ولا يريد لكلمات أبي سفيان أن تؤثر عليه بصورة من الصور، ومع ذلك لم يقل عليه الصلاة والسلام: أنتم فعلتم كذا وكذا، ولم يهدد، ولم يذكر كلاماً شديداً مع أبي سفيان؛ كل ذلك لكي لا يلفت نظر أبي سفيان إلى أن احتمال فتح مكة والهجوم عليها أصبح أمراً وارداً، فآثر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسكت وأن يصمت ولا يرد على أبي سفيان بأي كلمة.

يتبع....



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 38 - فتح مكة - 1


الدرس الثامن والثلاثون فتح مكة


يعتبر فتح مكة من أعظم لحظات السيرة النبوية عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فقد كان بمثابة اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرعه ودينه، بعد معاناة الصحابة بمكة قبل الهجرة مدة ثلاث عشرة سنة لاقوا فيها التعذيب والاضطهاد والتشريد والقتل، فهاهم اليوم يدخلون مكة منتصرين مستبشرين بهذا النصر المبين.


مقدمة بين يدي فتح مكة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد. فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. مع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.

في الدرس السابق تحدثنا عن خيانة ونقض بني بكر وقريش للعهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل عدد من رجال خزاعة المحالفة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، وتجهيز أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة.

والواقع أن قريشاً بعد أن قامت بهذه الجريمة وساعدت بني بكر على قتل الرجال من خزاعة في داخل الحرم جلست قريش مع نفسها تتشاور في هذه القضية، فهي قضية خطيرة جداً: قضية نقض الصلح مع المسلمين، فزعماء قريش عقدوا مجلساً استشارياً كبيراً واجتمع في هذا المجلس أبو سفيان مع قادة مكة، اجتمع مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وغيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة هذا الأمر الذي حدث وهو نقض المعاهدة، وقد كان هناك تصور عند قريش وخاصة عند أبي سفيان عن المسلمين وصل في تلك اللحظة إلى درجة الانبهار، فصلح الحديبية نفسه كانت الغلبة فيه للمسلمين، والقوة والبأس في صالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صف قريش، وتحدثنا عن ذلك بالتفصيل، وقريش ما كانت لتسلّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين، وكان هذا منذ سنتين عندما كان عدد المسلمين (1400) فقط في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية، ثم سافر أبو سفيان بعد الصلح إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء الذي تحدثنا عنه قبل ذلك ودارت بينهما المحاورة العجيبة، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بتصور هائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ضرب يداً بيد وقال: (لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يعني: هرقل - فما زلت موقناً أنه سيظهر)،

الشاهد أن أبا سفيان كان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ثم إن أبا سفيان ومن معه من أهل قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية المتتالية هنا وهناك، وبالذات في خيبر ثم في مؤتة، وكانت هذه الانتصارات كبيرة جداً وضخمة جداً، ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة، أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عمان وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك تصوراً بالرهبة والهلع عند قريش من مواجهة المسلمين، أضف إلى ذلك أن قريشاً بدأت تبحث في الفوائد المتحققة من مساعدتها لبني بكر في الخيانة التي تمت بقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد أي نوع من الفائدة تحققت؛ لأن هذه معركة داخلية بين بني بكر وبين خزاعة، فإعانة قريش لبني بكر على حرب خزاعة يعتبر تهوراً ملحوظاً،

بالإضافة إلى هذه الأمور خلفية عمرة القضاء، فقبل أقل من سنة واحدة رضي أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الذي طردوه وعذّبوه وأساءوا إلى سمعته، وحاربوه بكل طاقتهم، وافقوا أن يدخل إلى مكة ومعه (2000) من أتباعه لأداء العمرة، وأخلوا مكة له، وهذا لا شك ترك انطباعاً وتصوراً نفسياً قاسياً عند أهل قريش، ولا ننسى مظاهر القوة التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين، وعمرة القضاء كانت تمهيداً نفسياً إيجابياً للمسلمين، وكانت تمهيداً نفسياً سلبياً للمشركين، وهذا كله من تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى.

إذاً: قريش في اجتماعهم أدركوا أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة مع صعوبة تصور هذا الأمر على الذهن أمر محتمل، وبناء على هذا الاجتماع أخذت قريش قراراً صعباً، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة، وهذاً تنازل كبير جداً، وطعن كبير جداً في كرامة قريش، وخاصة أن الذي اختاروه للذهاب هو أبو سفيان شخصياً،

أي: زعيم مكة وسيد مكة، ليس مجرد سفير ترسله مكة ولكن زعيم مكة بكاملها وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل مع المسلمين، وله حروب متتالية مع المسلمين، وهاهو أبو سفيان يتنازل عن كبريائه وعن كرامته ويذهب إلى المدينة المنورة؛ ليطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة، وهذا شيء كبير جداً، ولعل هذه هي ولعله المرة الأولى في تاريخ قريش التي تقدم فيها تنازلاً بهذه الصورة.



الخميس، 19 فبراير 2015

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 13


وقفة مع قرار الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة


لا بد أن نقف وقفة مع هذا القرار: هذا القرار السريع ليس قراراً متهوراً حاشا لله، فالقرار مدروس وبحكمة، وذكرنا الواقع الذي كان فيه المسلمون والمشركون، لكن نريد أن نلفت الأنظار إلى أمر في غاية الأهمية، ساعد الرسول عليه الصلاة والسلام على اتخاذ القرار، وهذا الشيء نسميه: الجاهزية الدائمة، اجعل هذا شعار حياتك: كن مستعداً، هناك فرص كثيرة جداً تأتي للإنسان، ولكن لا يستغل هذه الفرص؛ لأنه غير جاهز وغير مستعد، فالرسول صلى الله عليه وسلم وشعبه المؤمن كان جاهزاً بصفة مستمرة، وكان الجيش مدرباً ومنظماً وعلى أُهبة الاستعداد دائماً، الشعب مهيأ لقضايا القتال والبذل والتضحية، والزوجات يدفعن أزواجهن للتضحية والجهاد، حتى الأولاد الصغار يعيشون هذا الجو باستمرار، ويتشوقون إلى الجهاد كما يتشوق إليه الكبار.

لو فُرض على الناس حرب وهي غير مستعدة نفسياً وقضايا الجهاد غير مطروحة في حياتها لا يمكن أن تجد أحداً سيقف معها، فالشعب المترف المرفه الذي يعيش بالملذات والأغاني والكرة صعب عليه أن يقف موقفاً محترماً في أزمة، فهذه الناس تحتاج إلى تربية، وكان شعب الرسول عليه الصلاة والسلام في جاهزية دائمة؛ ولهذا عندما يأتي ظرف مثل هذا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يستغله، فالوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية كان في تحسن مستمر، والتنمية في كل المجالات على أحسن ما يكون، والبلد تنتج الذي تريده لا تخاف من أحد، والعلاقات الدبلوماسية له كانت مستقرة وكثيرة، والمخابرات الإسلامية كانت هنا وهناك تقوم بدورها على أفضل ما يكون،

والحاكم والمحكوم والوزير والغفير والكبير والصغير الرجل والمرأة الكل يشعر بانتماء حقيقي غير مفتعل للبلد وللدين، وليس مجرد أغنية ليس لها أي معنى ولا تطبيق في حياة الناس! وليس مجرد شعار أجوف يقوله هذا أو ذاك! وليس مجرد خطاب سطحي مخادع للمحكومين! لا، الانتماء ليس أنك تذهب لتمثل بلدك في لعب الكرة وتحزن لو دخل هدف على بلدك، الانتماء أن تكون قابلاً لأن تدفع روحك من أجل بلدك ودينك، الانتماء أنك لا تضيع الدقيقة من شغلك في عمل ليس فيه فائدة للبلد والمسلمين، الانتماء أنك تصنع الذي تحتاجه ولا تستورد كل شيء، الانتماء أنك تحب الجيش وليس أن تهرب منه، الانتماء أنك تحافظ على أموال البلد وليس أن تختلسها وتعتبرها مالاً سائباً.

الانتماء قصة كبيرة جداً، قصة لا تقاس أبداً في الأستاد أو في السينما، لكن تقاس في ميدان الجهاد وفي المصنع والجامعة، وفي الحقول والمعامل في هذه الأشياء كلها، هذا هو الانتماء. فشعب المدينة كان يعيش قصة الانتماء بطريقة صحيحة؛ ولهذا استطاع أن يقف ويجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الانتماء الحقيقي.

وهذه الجاهزية الدائمة من أهم مفاتيح استغلال الفرص السانحة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يأخذ القرار من غير تردد؛ لأنه علم أن شعبه وجيشه معه بجد، وعلاقاته الدبلوماسية على أكمل وجه، وتعتبر السيرة منهجاً عملياً واقعياً للتغيير فعلاً. إذاً: أُخذ قرار فتح مكة، وهو من أخطر القرارات في تاريخ الجزيرة، بل في تاريخ العالم، وسوف نرى آثار هذا الفتح الذي سيشمل تقريباً جميع مساحة الأرض وإلى الآن وإلى يوم القيامة.

كان هذا هو الوضع في المدينة المنورة، فكيف كان الوضع في مكة المكرمة؟ كيف تفكر قريش بعد المصيبة التي وقعت عليها؟ وما الذي تعمله بنو بكر مع قريش، وما الذي تعمله القبيلتان مع المسلمين بعد هذا؟ وكيف سيتعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش بعد ذلك لتجنب الحرب؟ وكيف يجهز الرسول عليه الصلاة والسلام جيشه ويخرج به إلى هذا المشوار الصعب؟ فمكة المكرمة تبعد عن المدينة بمقدار (500) كيلو في الصحراء.

هذه التفاصيل في غاية الأهمية، وهي عماد بناء الدولة الإسلامية، فينبغي أن تدرس بعناية، وهذا إن شاء الله سيكون موضوع الدرس القادم. أسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 12


تناقص أعداء المسلمين وضعف شوكتهم


ثالثاً: تناقص أعداء المسلمين جداً في ذلك الوقت وضعف شوكتهم. رأينا أن اليهود انتهى خطرهم تقريباً بعد فتح خيبر، ورأينا غطفان لم ينته خطرهم فحسب، بل جاءت وفودهم تُعلن الإسلام، وتُعلن انضمامها إلى قوة المسلمين، وغطفان هي التي شاركت منذ سنتين في حصار المدينة المنورة المؤمنة، والآن سوف تشارك في حصار مكة المكرمة المشركة في ذلك الوقت.


الوضع القانوني والشرعي للمسلمين إزاء قريش

رابعاً: الوضع القانوني والشرعي للمسلمين. إذا أراد المسلمون فتح مكة فالوضع سليم، ولا ينكر عليهم أحد، فهذه فرصة سانحة لفتح مكة، وقد لا تتكرر بسهولة، ولذلك لا يجب أبداً أن تُضيّع هذه الفرصة، وفتح مكة مطلب هام جداً، ومعاهدة الحديبية كانت تعوق فتح مكة، أما الآن فقد نُقضت المعاهدة، وديار المسلمين وأموالهم في داخل مكة ما زالت منهوبة، وهناك فرصة لاستعادة كل هذه الأمور المنهوبة من المسلمين، كما أن هناك فرصة لتعليم عوام الناس في داخل مكة الإسلام إذا أُزيحت الطغمة الحاكمة من كراسيها في مكة؛ ولهذا نجد عدم تفاعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش لتجنب الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر أن ينتهز هذه الفرصة الثمينة ويفتح مكة، فهذه حكمة سياسية في منتهى الروعة.


رفع المسلمين للظلم عن المظلومين
واجب أخلاقي وقانوني وسياسي

خامساً: هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين أن يقوموا بفتح مكة؛ وذلك لرفع الظلم عن المظلومين، فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تُترك هكذا دون مساعدة، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقياً فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني، أي: أنه فرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة؛ لأن هذا التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية، فكيف يتخلى عنه المسلمون، المسلمون؟

ليس لهم اختيار في ذلك الأمر، ما داموا قد عاهدوا على شيء عليهم أن يفوا بعهودهم، والمعاهدة مع خزاعة على أن ينصروهم إذا انتُهكت حرماتهم، وقد انتُهكت وفي داخل الحرم، فلم لا يتحرك المسلمون؟ لا بد أن يتحركوا؛ لأن المعاهدة تقول: إن الاعتداء على خزاعة هو اعتداء على المسلمين، حتى وإن كانت خزاعة مشركة. إذاً: هناك واجب شرعي قانوني على المسلمين أن يجتهدوا في رد الحق إلى أصحابه، في رد الحق إلى خزاعة، وفي رفع الظلم عنهم.

وفي نفس الوقت هذا واجب سياسي هام جداً؛ لأن كرامة الدولة الإسلامية انتهكت أيضاً؛ ولأن هؤلاء الذين قُتلوا حلفاء المسلمين وإن كانوا مشركين، فلا بد لحفظ كرامة الدولة الإسلامية أن تكون الوقفة مناسبة، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الوقفة يجب أن تكون فتح مكة.
وهنا تضافرت أمور كثيرة جداً تفيد أن الوضع مناسب جداً لفتح مكة. وعندما نعيد هذه الأوراق ونحلل الموقف سنجد الآتي:

أولاً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الإسلامية ممتاز ويتقدم.
ثانياً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الكافرة في مكة ضعيف ويتأخر.
ثالثاً: الأعداء الآخرون للدولة الإسلامية استكانوا اليهود وغطفان وغيرهم.
رابعاً: الوضع القانوني إذا أراد المسلمون فتح مكة سليم تماماً.
خامساً: هناك واجب أخلاقي وشرعي وسياسي على المسلمين لصالح خزاعة لا بد من القيام به.

هذا هو الواقع الذي حلله الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظة واحدة، فقال: (نصرت يا عمرو بن سالم) وبدأ التجهيز لفتح مكة المكرمة. إذاً أخذ قرار فتح مكة المكرمة في هذه الظروف سيكون قراراً حكيماً يحقق عدة مصالح دعوية وسياسية وعسكرية وأخلاقية، وغير ذلك، لكن هذا ليس قراراً سهلاً، بل هو من أصعب القرارات؛ لأن مكة ليست كأي بلد، مكة هي عقر دار قريش ولها تاريخ طويل، وقريش ليست بالقبيلة السهلة، هي أعز قبيلة في العرب، والعرب جميعاً يوقّرونها، وقد يغير الكثير من الناس مواقفهم إذا هُددت قريش في عُقر دارها، وبالذات أن عقر دار قريش هو البلد الحرام مكة، وله مكانة هائلة في قلوب جميع العرب.

لقد كان القرار جريئاً جداً وقد تكون له تبعات هائلة، وفي نفس الوقت كثرة التفكير والتروي أكثر من اللازم قد تضيع الفرصة، لا بد أن نأخذ قراراً حاسماً، والقرار قد اتخذ فعلاً وبحسم وبقوة، فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 11


موقف الرسول صلى الله عليه وسلم
من اعتداء بني بكر على خزاعة


ماذا يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام إزاء اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء الخزاعي يستغيثان برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لكي ينجد خزاعة من الأذى والظلم الذي وقع عليها. هنا حدثت أزمة وهي أزمة نقض العهد، وأزمة احتمال الحرب، وأزمة اهتزاز صورة الدولة الإسلامية إذا لم يكن هناك رد فعل مناسب. هذه أزمة كبيرة جداً، ولكن كيف نحول الأزمة إلى فرصة.

هذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما تقع عليك مصيبة كبيرة لا يخبرك فقط كيف تخرج من المصيبة، ولكن كيف تحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوّلها إلى مصلحة، وإلى فرصة سانحة تحقق من ورائها فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر. فالرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يكسب من هذا الموقف، كيف يحقق نجاحاً من هذه الأزمة الكبيرة؟ كيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لرفعة الأمة وسيادة الأمة؟ هل يبعث ألف جواب استنكار أو شجب وندب؟ لن يسمع صوته أحد، فما الذي يعمل؟ هل يذهب إلى هيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة؟! لن تنفع بشيء، بل من الممكن أن تحكم لقريش الدولة الأولى في المنطقة فما هو الحل؟ لا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف، نأتي لندرس الواقع الذي يحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما هو حال الجزيرة العربية في ذلك الوقت؟


الوضع السياسي والعسكري للمسلمين

أولاً: الوضع السياسي والعسكري للمسلمين. لقد كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين بعد مؤتة وذات السلاسل وضعاً ممتازاً فأعداد المسلمين تتزايد، والجيش الإسلامي مدرب تدريباً جيداً جداً، ليس مدرباً في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل ومع الرومان في مؤتة كما رأينا.

فمعنويات الجيش الإسلامي في السماء، والانتصارات المتتالية في كل مكان رفعت معنويات الجيش الإسلامي. سمعة المسلمين طيبة على مستوى الجزيرة بكاملها، بل على مستوى العالم. والدولة الإسلامية لها علاقات قوية جداً مع أكثر من مملكة من ممالك الأرض، فاليمن دولة مسلمة، وعمان دولة مسلمة، والبحرين دولة مسلمة، وهناك علاقات مع الحبشة ومع مصر.



الوضع العسكري لقريش

ثانياً: الوضع العسكري لقريش. كان الوضع العسكري لقريش ضعيفاً، ويزداد ضعفاً مع مرور الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى هذا من سنتين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: (وإن قريشاً قد وهّنتهم الحرب وأضرت بهم)، وبعد الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن نسير إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم يرى أن الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح، والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في صالح قريش، ورأينا تحول الرجال والنساء من الكفر إلى الإيمان، فهذا إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت هو نقص في الدولة الكافرة.

وأحلاف قريش تكاد تكون محصورة فقط في بني بكر، وعلاقة قريش بهذا الحليف ليست قوية؛ لأنه كان بين قريش وبين بني بكر خلافات من أيام بدر، وهذه العلاقة بين أهل الباطل بين قريش وبين بني بكر أو أي حليف قد تتغير من حال إلى حال أخرى في وقت سريع وعاجل إذا تغيرت المصالح.

ولعل قريشاً إذا اتخذت موقفاً عسكرياً معيناً فقد تأتي بنو بكر وتخالف هذا الموقف، وتعتذر لخزاعة وللمسلمين وتفك الحلف بينها وبين قريش، فهذا كله وارد وممكن جداً، ورأته قريش قبل هذا في تاريخها أكثر من مرة، والحلف بينهما حقيقة ليس قوياً، والدليل على أنه عندما فُتحت مكة لم نجد أي مساعدة من أي نوع من بني بكر لقريش ضد المسلمين، مع أن مقتضيات معاهدة الحديبية تلزم بني بكر بالدفاع عن قريش إذا داهمها المسلمون، فما بالك لو كانت بنو بكر هي السبب في المشكلة، فهي التي خانت العهد، وهي التي هجمت على خزاعة، وما بالك لو كانت قريش أعانت بني بكر! فكل هذا كان من المفروض أن يجعل بني بكر تساعد قريشاً في أزمة الفتح، لكن لم نر ذلك وهكذا المعاهدات العلمانية القائمة على غير عقيدة صحيحة.

وعلى العكس كان الجيش الإسلامي وحدة مترابطة، يجمعها رباط واحد وهو رباط العقيدة، والرسول عليه الصلاة والسلام يرى هذه العلاقات متينة وقوية. إذاً: كان الموقف العسكري لقريش في أزمة كبيرة جداً؛ فقريش فقدت مجموعة من أعظم قادتها منذ شهور قليلة فقط، وهذا تمهيد رباني للفتح، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان سبباً في انتصار المشركين في أحد، فقد كان قائد الفرسان الفذ الذي له سمعة في الجزيرة بكاملها، فهذا الرجل انضم إلى المعسكر الإسلامي، وليس فقط خسارة على قريش، بل كسبه المسلمون، وصار إضافة هائلة للدولة الإسلامية.

وهذا عمرو بن العاص أيضاً من أعظم دهاة العرب فقدت قريش قوته وأُضيفت قوته للمسلمين. وهذا عثمان بن طلحة أيضاً ليس فقط من الفرسان الأشداء، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة فإضافته للدولة الإسلامية إضافة في منتهى القوة، وقد رأينا عائلة عثمان بن طلحة جميعها أُبيدت حول راية المشركين في غزوة أحد تدافع عن راية المشركين، وقبيلة بني عبد الدار لها تاريخ طويل جداً في الدفاع عن حرمات قريش، والآن زعيم هذه العائلة وعميدها عثمان بن طلحة ينضم إلى المسلمين، وليس من البعيد أن جميع بني عبد الدار تنضم إلى المسلمين، فهذا يسبب اهتزازاً واضحاً جداً للصف المشرك. إذاً: الوضع مستقر جداً للدولة الإسلامية، وفي الناحية الأخرى وجود ضعف عند قريش، ومع مرور الوقت يزداد هذا الضعف، وتقل الأحلاف، والجنود يقلون، والقادة يُفقدون ولصالح المسلمين.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 10


طول فترة الإعداد وقصر فترة التمكين


السنة الرابعة: وهذه السنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، لكن التدبر في هذه السنة سيثبت إن شاء الله عكس ذلك. فالسنة الرابعة أن فترة الإعداد طويلة جداً للدولة الإسلامية؛ لأجل أن نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، لكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة جداً. فقد كان الإعداد لفتح مكة والتمكين كما في السيرة مدة (21) سنة كاملة، فأول البعثة كان في رمضان قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، والفتح كان في رمضان بعد الهجرة بثمان سنين.

وفترة التمكين سنتان ونصف، من فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حدثت الردة، وانتهى التمكين. فترة الإعداد (21) سنة من أصل (23) سنة، سنتان ونصف، يعني (89%) من فترة السيرة، ولتكن (90%)، وفترة التمكين (10%) فقط.

ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً. هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً. وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة.

هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر. وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان.

هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟ هذا من أجل سببين رئيسيين: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة. إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان. السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه.


في زمن التمكين يرى الناس الدولة قوية وممكنة في الأرض، فينضم الجميع إلى هذه الدولة، المقتنع وغير المقتنع بالمبادئ الإسلامية، هذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت، وتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة جداً، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع للتربية كما خضع لها الأولون، وإنما أخذت قسطاً يسيراً جداً من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعاً فيختفي التمكين، وانظر إلى أعداد المسلمين بعد إعداد (19) سنة، فقد كان العدد (1400) مؤمن في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر زاد العدد،

وفي فتح مكة بعد أقل من سنتين من الصلح وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف رجل، وبعد فتح مكة بسنة واحدة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، العشرة آلاف الذين أتوا عام الفتح أصبحوا (30000) مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف منهم تقريباً (5000) أو (6000) أسلموا قبل الفتح بشهور وأيام قليلة، وبعد الفتح اجتمع (20000) بعد سنة واحدة، وبعد سنة أخرى من سنة (9) هـ إلى سنة (10) هـ سنرى أن الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وصل عددهم تقريباً مائة وثلاثين ألفاً في بعض التقديرات، يعني: زدنا مائة ألف مسلم في السنة العاشرة من الهجرة النبوية.

هذه أعداد ضخمة جداً التحقت بالدولة الإسلامية وهم في محاضن بعيدة جداً عن المدينة المنورة، وليست هناك الطاقة الكاملة الكافية لتربية هؤلاء، فعندما حصلت أزمة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حصلت ردة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، والردة وقعت عند الذين لم يتربوا، ولا يوجد أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ارتد، بل كلهم ثبت على الإسلام، لكن عموم الناس الذين دخلوا في وقت الفتح ووقت التمكين هؤلاء لم يُعطوا القسط الكافي من التربية، لذلك وقت التمكين عادة ما يكون قصيراً، ووقت الإعداد يكون طويلاً.

هل هذا الكلام محبط؟ هل يمكن أن يقول أحد المسلمين بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نمكن إلا فترة قصيرة فقط؟ الإجابة على هذا السؤال تكون بسؤال آخر: أقول لك: لماذا تقوم بالإعداد؟ ولماذا تريد التمكين؟ هل التمكين وسيلة أم غاية؟ ألست تريد التمكين لترضي الله عز وجل وتفوز بجنته سبحانه وتعالى؟ إذا علمت أن الله عز وجل يُعطي جنته لمن عمل بغض النظر عن تحقيق النتيجة، وبغض النظر عن أنه حدث تمكين أو لم يحدث تمكين في زمانه، فالله سبحانه وتعالى يعطيه الأجر على قدر العمل بغض النظر عن الزمن الذي وجد فيه، أليس ذلك مريحاً للإنسان ومطمئناً له؟

فأنت مأجور على عملك في فترة الإعداد وعلى عملك في فترة التمكين أيضاً، إذاً: المطلوب منك العمل وليس التمكين، فكم من الأمم ممكنة في الأرض وهي من أهل النار؟ وهذا كثير جداً، قال تعالى: ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)) [آل عمران:196 - 197]. وفي الجهة الأخرى، كم من غير الممكنين في الأرض وهم من أهل الجنة؟ فهذا مصعب بن عمير مات في غزوة أحد، ومع ذلك هو من أهل الجنة، وكذلك حمزة بن عبد المطلب، بل إن هناك من مات في الفترة المكية، منهم: سمية أم عمار بن ياسر و ياسر رضي الله عنه ..

وغيرهم ماتوا في الفترة المكية، كذلك البراء بن معرور و أسعد بن زرارة ماتا قبل بدر ولم يشاهدا أي نصر للدولة الإسلامية، ومع ذلك إن شاء الله هما في أعلى عليين. فالمهم أنك تشتغل وتعمل لله عز وجل، وليس بالضرورة أن تعمل في زمن التمكين أو قرب زمن التمكين، لكي تسعد بنتائج العمل؛ لأن السعادة الحقيقية بعملك هناك في الجنة، والله عز وجل يختار بحكمته وقدرته اللحظة التي يُمَكَّنُ فيها المسلمون. فهل العمل في زمن التمكين أكثر فائدة وأعظم نفعاً أم في زمن الإعداد؟ قرأنا قبل قليل قوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) [الحديد:10] يعني: أن العمل في الفترة التي تسبق التمكين أعظم أجراً من العمل في فترة التمكين.

إذاً: من مصلحة المسلمين أن تطول فترة الإعداد، حتى يحصلوا على ثواب أعظم، ومصلحتهم أن يتأخر التمكين، لكن ليس معنى هذا: أننا لا نسعى للتمكين، بل بالعكس نحن مطالبون به، لكن إذا تأخر فلا نحزن ولا نكسل ولا نفتر ولا نقعد، وإنما نوقن أن الله عز وجل أراد بنا الخير، وأراد لنا أن نعمل في زمن ليس فيه فتنة، لعله سبحانه وتعالى يريد أن يثبتنا على الحق، ولعله علم علم إن مُكّن في زماننا أن نُفتن بمال أو بكرسي أو بغيره. إذاً: السنة الرابعة: أن فترة الإعداد طويلة وفترة التمكين قصيرة، وهذا لا يحبط الناس، بل هو أمر متكرر في كل فترات التاريخ. وهناك سنن أخرى كثيرة وسنتعرض لها إن شاء الله أثناء الشرح أو في محاضرات أخرى.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 37 - الطريق إلي مكة - 9


مجيء النصر والتمكين للمسلمين من حيث يكرهون


السنة الثالثة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، بل يأتي من حيث يكرهون. وهذا غريب جداً، لكنه متكرر حتى صار سنة، فـ طالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] فكان يوم الفرقان.

وكره المسلمون تحزب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية. وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة.

كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟ رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها.

ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!! لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟ لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت.

وهذا ليس معناه أننا لا نخطط أبداً، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقاً، لا بد أن تضع ألف خطة جادة لتحقيق النصر؛ لأن النصر سيأتي بالخطة رقم (1001) كما تقدم، أي: يأتي النصر بالخطة التي لم تخططها. فالألف خطة هذه مطلوبة لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب، ولتكون مستحقاً لرضا رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ثم تستحق نصر الله عز وجل، لكن النصر يأتي بالخطة التي لم تحسب لها حساباً؛ لكي تعود بالفضل في النهاية لله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] النصر نصر الله عز وجل، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2].

كيف سيكون رد المسلمين في حالة رؤيتهم للفتح والنصر؟ وضح لنا سبحانه وتعالى في هذه السورة القصيرة المعجزة سورة النصر أن على المسلمين عند رؤية النصر عمل شيئين:

أولاً: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] يعني: سبح بحمد ربك الذي نصرك والذي أيدك بقوته، والذي مكّن لك في الأرض.

ثانياً: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] يعني: تأتي بالاستغفار بعد النصر والتمكين، لاحتمال أن يكون قد دخل في روعك أنك قد انتصرت بقدرتك وبقوتك وبتخطيطك وبتدبيرك، تقول: أنا فعلت كذا، أنا خططت، وأنا دبّرت!! فاستغفر من هذا الأمر؛ لأن الله عز وجل هو الذي فعل، وسوف نفهم بعد هذا كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو في حالة شديدة من التواضع؛ لئلا يُفهم أنه قد فعل ذلك بقدرته البشرية، لكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين والنصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له سبحانه وتعالى.

إذاً: يأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدّعي مدع أنه انتصر بقوته، ولكن يُنسب الفضل والنصر لله عز وجل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].