الأحد، 31 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-8



دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الحج


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الوفود التي تأتي لتحج في مكة، وبدأ يعرض عليهم الإسلام كعادته في ذلك، لكن بدأ يطلب منهم فوق هذا النصرة، وأن يساعدوه ويدافعوا عنه، فهو يريد بديلاً للمطعم بن عدي، وفي نفس الوقت لم يقل صراحة أنه سوف يحارب قريشاً، أو أنه سيقف أمامها؛ لأن المرحلة في ذلك الوقت كانت صعبة والوضع غير مستقر، وكل هذا يتم في ذي القعدة وذي الحجة من السنة العاشرة من البعثة.

أي: بعد كل الأحداث المؤلمة والمحزنة التي حدثت في الشهرين الماضيين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك بمنتهى النشاط مع كل الظروف العادية التي تحصل لأي إنسان عنده بيت وأولاد، ولديه مسئوليات.

ومن هذا الموقف تصلنا رسالة هامة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي لا عذر لأحد، فكلمة الظروف لم تكن موجودة في قاموس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس تعتذر بسبب الظروف: أنت لم تعرف ظروفي، ظروفي غير مناسبة، ليس من يديه في الماء كمن هي في النار! يا أخي الحبيب! أنا أريد منك أن تنظر بأمانة لظروف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتستطيع أن تحكم فعلاً إذا كانت ظروفك صعبة أم لا، فقد كان من الممكن أن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة، ويفتح قلوب العرب لكلامه من أول يوم في الدعوة، ويوفر عليه الجهد والتعب، ويريح قلبه بدلاً من خروجه من حزن ودخوله في آخر، لكن ربنا يعلمنا طبيعة الطريق، فمن الطبيعي أن يكون عندك مشاكل في طريق الدعوة، لكن ليس من المفترض أن توقفك، من الطبيعي أن تحاربك الناس وتؤذيك وتسخر منك، لكن ليس من المفترض أن يوقفك مثل هذا، الناس مريضة بمرض البعد عن ربنا سبحانه وتعالى، وأنت طبيبهم تعالجهم ولا تضربهم، وتحبهم ولا تكرههم.

هذه هي الرسالة التي أخذناها من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي أخذناها من مكة والطائف، والتي سوف نأخذها بعد هذا من المدينة المنورة، الرسالة واضحة، طريق الدعوة صعب، لكن لا بد أن نمشي فيه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34] دعوة وبعدها تكذيب وإيذاء ثم صبر من الدعاة، وفي الأخير {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فليس هناك طريق آخر، فهذا طريق الرسل، وطريق كل مسلم يحب دينه، ويريد أن يتحرك وسط الناس.

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم الوفود التي أتت لتزور مكة، ذهب لبني كلب، ولبني كندة، ولبني حنيفة، وذهب لغيرهم، ومع ذلك ما قبل أحد منهم الإسلام، كل هذا وعمه أبو لهب يمشي خلفه في كل زيارة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على كل قبيلة، ويقول لهم: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتسمعوني وتصدقوا بي، حتى أُبين عن الله ما بعثني به، يريد منهم أن يسلموا ويدافعوا عنه، 

وأبو لهب هو أيضاً يبذل مجهوداً، فبعد أن ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه يقف ويقول لهم: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعماقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، يدعي أن هذا ما هو إلا البدعة والضلالة، وأيضاً يقول: فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فالناس يسألون ويقولون: من هذا؟ فيقال: عمه، فيقول: من المؤكد أنه يعرفه أكثر منا، فلا يؤمنوا، فيذهب أبو لهب فرحاً بنفسه، ويرى أنه قد أدى واجبه، ولا يعرف أنه يحفر لنفسه قبراً في جهنم، فهذا اسم على مسمى أبو لهب، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3] أي: أنه باسم النار التي سوف يدخلها.

كل القبائل رفضت الدعوة، ولم يكن هناك أحد يفكر، إلا قبيلة واحدة فقط التي أخذت الموضوع بجد وفكّرت في الإسلام، ولكن كانت هناك نقطة معينة اشترطوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلموا ويدافعوا عنه.
ما هي هذه القبيلة؟ وما الذي اشترطوه على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وما هو رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ 

هذه القبيلة هي قبيلة بني عامر، وهي من أعز قبائل العرب، وهي إحدى خمس قبائل لم تعرف في تاريخها كله سبياً لنسائها، ولا دفعاً لإثارة غيرهم، والمباحثات معها في غاية الحساسية، عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام وطلب منهم النصرة كبقية القبائل، وكان زعيمهم بيحرة بن فراس واهتم بالموضوع ووقف يقول لأصحابه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، وفي هذا يوضح لنا أن هذا الرجل بعيد النظر، فهو يعرف أن هذه الرسالة سيكون لها مستقبل، ومن يتبناها سوف يسيطر على جميع العرب، لكن في نفس الوقت من الواضح أنه انتهازي ونفعي، فهو لا يريد الإسلام لأنه يحبه، وإنما لأنه يحب الزعامة والسيطرة والرئاسة؛ لأنه بعد ذلك عرض على الرسول عليه الصلاة والسلام عرضاً في منتهى الإغراء، واسمع لهذا العرض، 

وضع في ذهنك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي مكة الدعوة مقفلة، والناس تحاربه، ولا توجد قبيلة ترضى بالإسلام أو بالمدافعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في إجارة المطعم بن عدي الكافر، ونصف المسلمين في الحبشة، وبقيتهم يعذبون في مكة

هذا واقع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان عرض بيحرة ؟ قال: أرأيت إن نحن بايعناك على هذا الأمر ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فهنا بيحرة يعرض أن يدخل في الإسلام هو وقبيلته، وأن يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد كل من يخالفه، وأن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الوضع الحرج الذي يعيشه، وأن يترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته يدعو إلى الله ويعلم ويربي ويأمر ويقود، لكن الشرط الوحيد هو: بعد أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى الأمر لقبيلة بيحرة ، والزعامة لـبيحرة في حال حياته أو لقبيلته من بعده. 

أعتقد أن هذا العرض في نظر أي سياسي من سياسيين الدنيا لا يُرفض فـبيحرة يقول له: أنا أساعدك إلى أن تصبح رئيساً وزعيماً، وستظل كذلك إلى أن تموت، وبعد أن تموت تنتقل الزعامة لنا، أي زعيم من زعماء الدنيا لا يهمه الدنيا جميعاً وما يحصل فيها بعد موته، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من زعماء الدنيا، فهو يخاف على الناس وعلى أمته وليس فقط في زمانه، فهو أيضاً يخاف على جميع الخلق الذين سوف يأتون من بعده وإلى يوم القيامة. تأمل رد الرسول صلى الله عليه وسلم في ثبات على عرض بيحرة ، 

قال: (الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء) فلو أنك تستحق، فالإسلام هو الذي سيعطيك الولاية، ولو أن غيرك هو الذي يستحق فهو من يُعطى الولاية، فالأمر في الإسلام لا يوهب لغير أهله مطلقاً. وهنا درس مهم وهو أن الحريص على الولاية في الإسلام لا يأخذها، فمن الخطر أن تكون ممن يريد الزعامة، وانظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص عليه) 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الناس أي شيء مقابل أن يسلموا، فقد يعطيهم المال والأغنام والذهب والفضة، لكنه لا يعطيهم الزعامة إلا إذا كانوا يستحقونها أو لا يريدونها؛ لأن فتنة الزعيم وضلال الزعيم لا يرجع عليه فقط، وإنما يعود على الأمة بكاملها، والزعيم الذي يريد الزعامة سوف يرتكب كل الموبقات والجرائم والتزوير ليحافظ على زعامته، والزعيم الذي يعيش لدنياه سوف يهمل دنيا الناس ودينهم، ولو أخذ قراراً في ظلم سيظلم به شعباً كاملاً، ولو مشى في طريق خطأ فسوف يمشي الشعب بأجمعه خلفه؛ ولهذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بيحرة .

رفض عرض الرجل الذي يريد زعامة وإن كانت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، رفض هذا العرض وهو في أمس الحاجة إليه ليضع قواعد واضحة عن خلقه وليس هناك خطوة واحدة في حياته إلا وفيها ألف كنز .

عندما قال هذا الكلام رفض بيحرة الإسلام، وبمقاييس أهل الدنيا فإنه من الجنون أن يوافق بيحرة ، كل واحد من أهل الدنيا يقول: وأنا أين نصيبي؟ لكن الذي يحمل هم الإسلام هو الذي ينسى نفسه تماماً ليخدم الناس. قال بيحرة : أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإن أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك، وبهذا فشلت المفاوضات مع بني عامر، 

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في إرساء قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية، واحفظوها : (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، أو حرص علي ) . وبهذا ينتهي العام العاشر من البعثة، وانتهى عام الحزن الذي حمل مشاكل ومصائب من كل نوع، لكن مع كل هذه المشاكل والمصائب والهموم إلا أنه انتهى والرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال رأسه مرفوعاً، ويعمل صلى الله عليه وسلم بمنتهى الحماسة في دعوته، وإن لم يكن هناك الكثير من الناس آمنت في هذه السنة إلا أن الدروس التربوية والقواعد البنائية للأمة لا تُحصى ولا تُعد، هناك كم هائل من الدروس والعظات والعبر، من أهم الدروس :

الأول: أنه مهما كانت ظروفك فلابد أن تعمل لله .
الثاني: ليس من المهم أن يؤمنوا بدعوتك ويصدقوا كلامك، المهم أن توصل إسلامك؛ لأن مهمتنا التبليغ (( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ  )) ]آل عمران:20[ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله أن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ))  ]غافر:44[
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-7


مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة
ولقاؤه الجن وإيمانهم به أثناء رجوعه من الطائف



بعد موقف ملك الجبال أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم طريقه إلى مكة، فلما وصل إلى وادي نخلة على بعد (43) كيلو متر من مكة، وقف يستريح قليلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يستريح لا يستريح بالنوم وإنما بالصلاة، فوقف يصلي ويقرأ القرآن، فهو يتزود ليكمل الطريق.


كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أنه وحيد في هذا الوادي، وهذا صحيح بالنسبة للإنس، لكن لم يكن صحيحاً بالنسبة للجن، فكان هناك جن في وادي نخلة، جلسوا يستمعون القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله يصف ذلك الحدث: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32].

إن كان البشر في الطائف ومكة قد رفضوا الدعوة، فهناك مجموعة لا بأس بها من الجن آمنت، وفي الحقيقة أن هذا لا يخوّف، بل يسعد أن تأتي يوم القيامة وتجد في ميزان حسناتك ألف أو مليون جني، فمثلاً: كنت في يوم من الأيام تدعو إلى الله، أو تقرأ القرآن، أو تذكر الله سبحانه وتعالى فسمعك جني وآمن، فهذا خير عظيم.


فوائد خروج النبي صلى الله عليه وسلم 
من مكة إلى الطائف



قد يظن ظان أن دعوة الطائف لم يكن فيها فوائد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تعذب من غير ثمن، لكن الحمد لله فقد آمن عدّاس، وهذا أمر لا يستهان به، فهذا غلام أو رجل أُنقذ من النار وسيدخل الجنة إن شاء الله.
وهناك أمة ضخمة جداً من الخلق من الجن قد آمنت بهذه الكلمات التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك التثبيت من الله عز وجل عندما بعث للرسول صلى الله عليه وسلم ملك الجبال.



كيفية دخول النبي صلى الله عليه وسلم 
مكة
بعد عودته من الطائف


اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة عند رجوعه من الطائف، فاستوقفه زيد بن حارثة على مشارف مكة، وقال له: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه بيقين وقال له: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)، كأنه لم تكن هناك أي مشكلة وقعت لا في الطائف ولا مكة، بل كأنه سيبتدئ الدعوة من بدايتها.


وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبواب مكة، وبدأ في التفكير في كيفية الدخول إليها، فقرر أن يستفيد من قانون الإجارة في مكة، وهو قانون محترم فيها، بما أن الذي يطبقه هم المشركون، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من هذه القوانين طالما أنها لا تتعارض مع شرع الله عز وجل، وليس هذا فحسب، فقد قرر أن يدخل في إجارة مشرك ليس من بني هاشم، وليس بمؤمن؛ لأنه لو دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمثابة إعلان الحرب بمكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن، وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، كما أنه لا يجد في بني هاشم على عظمها من يجيره، فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل ولن يترك أحداً من بني هاشم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم.


فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأخنس بن شريك فلم تكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف، وأنه ليس رجلاً أصيلاً في مكة، فالحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المفروض أن يوافق، لكنه قال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، وسهيل بن عمرو من بني عامر، والرسول صلى الله عليه وسلم من بني كعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ويفهم القوانين، ويعرف أنها ليست حتمية، وأنه من الممكن أن يجير الحليف، وأن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلا لم يكن ليبعث لهم، كانت هذه اعتذارات مؤدبة من قادة مكة.
ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدي أحد زعماء مكة الكبار، وسيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وهو أحد الذين شاركوا في نقض الصحيفة بعد ثلاث سنين.


وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به الحمايات، وسارت به حتى وصلت به إلى البيت الحرام، فصلى ركعتين وقام المطعم بن عدي فخطب في الناس، فقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، ثم أوصلوه إلى بيته ووقفوا على بابه يحمونه!

تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، وكان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، لكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، لكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، فلا تزال هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، لكن ما المانع من استغلالها؟ ما المانع من استخدام أحد المعارف من الكافرين للحماية ما دام ليس هناك تنازل ولا تفريط؟ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس، وحوله الأسلحة من كل مكان، لم يدخلها متسللاً أو منهزماً، ومع أن الحماية جميعها آتية من بني نوفل من المطعم بن عدي أحد المشركين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص أن يفهم جميع أهل مكة، والمطعم بن عدي أنه لن يتنازل عن الإسلام والدعوة،

ولهذا كان أول شيء فعله صلى الله عليه وسلم أن ذهب إلى البيت الحرام يصلي فيه ركعتين على طريقة المسلمين، وأمام جميع الناس؛ ليعلن لأهل مكة ولبني نوفل وللمطعم بن عدي أنه ما زال على نفس الطريق، وسوف يأتي الحجاج لمكة، وسيخرج لهم أيضاً ليدعوهم للإسلام، تماماً كما كان يفعل في أيام أبي طالب.
هذا فقه الواقع، المهم لا يكون هناك تنازل.

عند ذلك يكون الوضع قد استقر نسبياً في مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم محمي بسيوف بني نوفل، وبكلام المطعم بن عدي الذي قاله وسط جميع الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجل بعيد النظر، حنكته التجارب، يعرف أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فقريش مهما كانت لن تترك المطعم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة طويلة أبداً، ومع هذا فـ المطعم أيضاً كافر وله طاقة والموقف صعب، ومن الممكن أنه لا يستطيع أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، كل هذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-6


إيمان عداس بالنبي صلى الله عليه وسلم


لما لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديقة خرج أصحابها وهما: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة من كفار مكة، وعتبة بن ربيعة كان يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بل دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، وعليك بـ شيبة بن ربيعة) وكان عتبة وشيبة من أغنياء مكة الذين لهم أملاك في الطائف، لكن مع كل العداء المستحكم بين عتبة وشيبة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحالة التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم جعلتهما يعطفان عليه وبعثا له بعنقود عنب مع أحد العبيد، واسمه عداس وكان نصرانياً، وضع الطبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى الطبق وأخذ عنبة، وقال: (بسم الله) ثم أكلها، تعجب عدّاس من هذه الكلمة؛ لأنه لم يسمع بمثل هذا في الطائف، فقال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يشرح له معنى بسم الله الرحمن الرحيم،


بدأ يتعرف على عداس، أول شيء في الدعوة التعارف؛ لأن التعارف له هدف واضح، فهو يتكلم معه بأمر الدين، وسأله أسئلة ذات مغزى حتى في هذه الظروف شديدة القسوة لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، فأشراف الطائف رفضوا دعوته وضربوه، وهو يبحث عمن يسمع دعوته حتى ولو كان غلاماً صغيراً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال الغلام: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي)


هذا الغلام الصغير أدرك في لحظة ما لم يدركه حكماء ثقيف، آمن في لحظة واحدة، وأكب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، كما لو كان الله سبحانه وتعالى أراد أن يريح قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمان عبد، ولكن هذا العبد بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعاً.

كان عتبة وشيبة يراقبان هذا الموقف من بعيد، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فدعاه وقال له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال له: ويحك يا عدّاس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه، وكذبوا والله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].

كان لابد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من هذا المكان، فهو غير آمن، فعنقود العنب ليس كافياً لإثبات حسن النوايا، فهذان هما عتبة وشيبة لعنهما الله.




خروج النبي صلى الله عليه وسلم 
من الطائف
ووصوله إلى قرن الثعالب ولقاؤه ملك الجبال


بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في اتجاه مكة، وبدأ يفكّر كيف سيدخلها، فالأفكار في عقله تتصارع، وجعلته يمشي وكأنه في حلم، أو مغمى عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فانطلقت وأنا أهيم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهو على بعد (35) كيلو متر من الطائف، مشى الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المسافة وهو لا يدري من شدة الهم والتفكير، وفي قرن الثعالب حدث أمر عجيب،


يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت) وانظروا إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه ملك الجبال ليسمع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين) أي: لو كنت تريد أن أُسقط عليهم الجبال فعلت.


فقط عليك أن تأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يفكر، بل قال في منتهى الهدوء: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يُشرك به شيئاً).

انظروا إلى رقي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل الألم والحزن والاضطهاد والقهر لا يزال الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عليهم، ويأخذ قراره بدون انفعال، ومع كل المصائب التي رآها صلى الله عليه وسلم لم يتغير؛ لذا نقول: يستحيل علينا أن نوفي الرسول صلى الله عليه وسلم حقه، ألا يستحق أن يصفه الله عز وجل بأنه على خلق عظيم، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا هو رسولنا!

يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الفرق الضخم والمهول بين السياسي الداعية، والسياسي من أهل الدنيا، سياسي الدنيا لا ينظر إلا إلى المصلحة المادية، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل، وهو أن يسلم الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، السياسي الداعية لا يحب أن يحصل له التمكين على جثث ملايين الكافرين، وليس هناك مانع من أن يتأخر التمكين قليلاً إلى أن يؤمن الكفار.

إذاً: رسالتك في الأرض أن تعلم الناس وليس أن تجلدهم، الناس سوف تضايقك وتؤذيك، لكن هذا لا يغير طريقك؛ لأنك لا تقبض من الناس أنت تأخذ أجرك من الله سبحانه وتعالى، والله لن يضيع مجهودك! وبعد مرور السنين الطوال أخرج الله عز وجل من أصلابهم من لا يكتفي فقط بقول: لا إله إلا الله، ولكن يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض، فمن صلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل.

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت كل جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والطائف والمدينة المنورة، ولو دعا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان أهلكها الله سبحانه وتعالى، فهاتان المدينتان ثبتتا على الإسلام في زمن الردة، وحملتا الدعوة حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا علينا أن نفهم ديننا ونفهم دورنا، فدورنا أن نعلِّم من غير أن نمل ولا نكل، ونربي من غير أن نجلد، وندعو جميع العالمين إلى الإسلام من غير أن نأخذ شيئاً منهم، هذا هو دورنا الذي علمناه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-5


موقف أهل الطائف من
الرسول صلى الله عليه وسلم 
حين أتاهم ودعاهم إلى الإسلام



وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وظل يفكر لمن أذهب؟ وأبتدئ بمن؟ لأن الأمر الآن ليس مجرد دعوة فقط، بل هي دعوة وطلب للنصرة ضد قريش، لذا ذهب لسادة الطائف، فالضعفاء لن يجيروه من قريش، وليس هذا تقليلاً من شأن الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية، ولا يمكن أن يقاس هذا الموقف بموقف (عبس وتولى)، لا بد من الحديث مع من يستطيع أن يتحمل المسئولية، كما أنه في الطائف ليس له أي إجارة، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة كبير ولا صغير، ولهذا فكّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب لقيادة الطائف مباشرة.


وفي هذا رد على من يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، فهذه هي السياسة، إلا إذا كان قصدهم أن السياسة لا تنفع إلا بالكذب والنفاق والمظاهر والتجمل الزائف، فأقول له: الإسلام يدعو إلى السياسة النظيفة، والسياسة الشرعية جزء لا يتجزأ من التشريع الإسلامي، وها نحن نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل بها.


اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير من كبار سادات الطائف، وعرفهم بنفسه ودعاهم للإسلام ودعاهم للنصرة له وللمسلمين ضد قريش، وهؤلاء الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، فكان ردهم في منتهى السفاهة والتخلف وانعدام الأدب، قال عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط -يعني: سوف يقطع- ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وليس هذا استخفافاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا، وإنما بالله عز وجل، أي: سوف يقطع ثياب الكعبة اعتراضاً على إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وقال مسعود: أما وجد الله أحداً غيرك؟ أما الثالث حبيب فحاول أنه يستظرف أو يمثل دور الذكي، إلا أنه كان في منتهى الغباء، قال: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً؛ لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي أن أكلمك.


مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطدم صدمة جديدة إلا أنه قال لهم: (إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني) أي: إن لم تؤمنوا فاجعلوا هذا الأمر بيني وبينكم، فهو لا يريد أن يصل الخبر إلى قريش، فلو وصل الخبر إليهم سوف يتهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة إلى آخر الأشياء التي تعرفوها، لكن للأسف كان زعماء الطائف مع أنهم أغبياء ومنعدمو الأخلاق، كانوا أيضاً فاقدي المروءة، فهم لم يكشفوا أمره فقط، بل أغروا به سفهاءهم وغلمانهم.


لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث، وظل في الطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا وكلمه، ولكن كلهم رفضوا، وفي اليوم العاشر قالوا له: اخرج من بلادنا، وصفوا العبيد والسفهاء صفين خارج الطائف، وجعلوه يمر بين الصفين، وبدءوا يرمونه بالحجارة وهو بين الصفين، وبدأ الدم يخرج من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يستطيع التصرف، وزيد بن حارثة يحاول بكل طاقته أن يبعد الحجارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يستطيع، فالحجارة تأتيه من كل مكان، وشج رأسه رضي الله عنه وأرضاه، ومع كل هذا شتائم وسباب ولعنات، والرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه يبذلون قدر استطاعتهم للخروج من بين الصفين في اتجاه مكة، لكن العبيد لم يتركوهم، وأسرعوا خلفهم بالحجارة مسافة خمسة كيلو متر كاملة، ثم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة فدخل فيها، لعله يجد من يدافع عنه، وعندما دخلها خاف العبيد من اللحوق به، وعادوا إلى الطائف.


أبعد كل هذا العناء والكد والتعب والمشقة هناك من المسلمين ممن يفرطون بالإسلام؟! الناس لا تدري عن الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعها زيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة وغيرهم، إن الدين لم يأتنا بسهولة، فكل لحظة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها معاناة شديدة، كل هذا ليبلغنا ويوصل لنا الدين.


ثم إني لا أشك في أن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقي في هذا الموقف كان على أهل الطائف وليس منهم، وكان لسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً عليهم كما أنه خائف علينا، أكثر شيء يحزنه أن يأتي من يرفض الإيمان وليس أن يؤذيه أو يضربه، فقد قال الله سبحانه وتعالى له: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127] وليس ولا تحزن منهم، فإنه كان خائفاً عليهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمة حقيقية للأرض صلى الله عليه وسلم.


دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الحديقة واستظل تحت شجرة فيها، ووضع ظهره عليها، وكان يسيل الدم عليه، وثيابه مقطعة والتراب يغطيه، فحاول أن يتماسك أمام زيد بن حارثة لكن لم يستطع! وبدأت الدموع تنزل من عينيه صلى الله عليه وسلم، كان بداخله بركان من الألم غير الجراح والدماء. فما الذي سوف يعمله في هذا الوقت؟ وكيف يرجع إلى مكة؟ فمن المؤكد أن الأخبار قد وصلت إليهم، وأصبحت مكة مقفولة عليه، فمن أين سيدخلها؟ بكى صلى الله عليه وسلم بحرقة، ثم رفع يديه إلى السماء، وبدأ يدعو بدعاء حزين جداً، ما دعا به قبل ذلك، ولم يدع به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم الشديد الذي يعتصر قلبه صلى الله عليه وسلم،


قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالى، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)، ألم شديد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-4


خروج الرسول صلى الله عليه وسلم 
عام الحزن إلى الطائف

كان الهم الكبير الحقيقي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، وكان أكثر شيء يزعجه هو بعد الناس عن الإسلام، وأن الموقف تجمد في مكة وأُغلقت جميع أبواب الدعوة فيها، كان هذا أشد ما أثر فيه؛ لأن الدعوة كانت في دمه، ولا يستطيع أن يتوقف عنها، وها هي مكة قد أغلقت كل أبوابها، فهل من المعقول أن يأتي وقت تقف فيه الدعوة؟ مستحيل، الدعوة بالنسبة له كالماء والهواء.

إذاً: كيف سيتصرف في هذا الموقف الصعب؟ كان الله سبحانه وتعالى يشفق عليه من كثرة حزنه على الناس، فقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يتحمل وقوف الدعوة؛ لذا فكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرة الأولى منذ البعثة أن يخرج بدعوته خارج مكة، وقبل هذا لم يكن هناك خروج من مكة أبداً؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها، ولو بمشقة، لكن في هذا الوقت بعد أن وقفت الدعوة في مكة أصبح هناك مبرر للخروج، وهذا درس مهم، فإن الداعية لا يترك مكانه ويخرج إلى مكان آخر إلا إذا كان المكان الذي يعيش فيه لا يستطيع أن ينشر فيه دعوته؛ لأن مسئوليته الأساسية هي الناس الذين يعيش معهم.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم سيخرج، ولكن إلى أين، فمدن الجزيرة كثيرة، والقبائل فيها متعددة؟ فبمن يبدأ؟


سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الطائف للدعوة


فكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالطائف، ولم يكن هذا الاختيار عشوائياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم سياسي بارع، وقائد محنك يدرس كل خطوة بدقة شديدة، كانت الطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بأشياء مهمة جداً:


أولاً: تُعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، فهي مركز حيوي وهام من ناحية الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة كبيرة في قلوب العرب، فقد كان يقول المشركون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] القريتان: هما مكة والطائف، فكانت مكانتها عالية، والناس الذين فيها كثر.

ثانياً: في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية، وواضح أن قريشاً بعد هذا سوف تحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن قبيلة قوية تستطيع أن تقف أمام قريش، وهذا ليس من السهل، وقبيلة ثقيف كانت في منتهى القوة لدرجة أنها هي القبيلة الوحيدة التي استعصت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، وظل يحاصرها شهراً كاملاً ولم تُفتح، وإنما أتوا بأنفسهم وأسلموا، فهي فعلاً قبيلة قوية، وضخمة.

ثالثاً: كانت المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فإذا كانت مكة فيها البيت الحرام وهُبل، فالطائف فيها اللات أشهر أصنام العرب، وكثير من العرب كانوا يحلفون باللات، حتى ممن بداخل مكة، ولعل الطائف ترغب في سحب البساط من تحت أقدام مكة وتتبنى هذه الدعوة الجديدة؛ لكي تتفوق على مكة في ناحية الدين.

رابعاً: أن الطائف قريبة نسبياً من مكة، والمسافة بينهما حوالي (100) كيلو، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يبتعد كثيراً عن مكة، ليسهل التنسيق بين مكة والطائف.

خامساً: كانت الطائف مهمة بالنسبة لأهل مكة، فأغنياء قريش بصفة عامة كانت لديهم أملاك في الطائف، من بني هاشم وبني عبد شمس وبني مخزوم، ولو دخلت الطائف في الإسلام فستكون ضربة اقتصادية موجعة لقريش.

ومن أجل هذا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بالطائف، فذهب إليها في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب أو بعد على حسب اختلاف الروايات، وهذا يبين إلغاء مصطلح الراحة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كانت المسافة بين الطائف وبين مكة (100) كيلو، والطريق كله صحراء، والجو حار، وكان هذا في مايو أو يونيو سنة (619م)، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع هذه المسافة مشياً على الأقدام، ولم يكن من الصعب عليه أن يوفر جملاً أو حصاناً، لكنه أراد ألا يلفت النظر إليه، فلو رآه المشركون سيعلمون أنه مسافر، وتتعطل الدعوة، ولهذا السبب أيضاً أخذ معه زيد بن حارثة، ولم يأخذ معه غيره من الصحابة من فرسان المسلمين كـ حمزة أو عمر أو سعد أو الزبير ممن يحميه هناك في الطائف؛ لأن أي واحد من هؤلاء لو خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم خارج مكة سوف يلفت النظر، لكن لو أخذ معه زيد بن حارثة، وكان في ذلك الوقت متبنيه، ومعروف بـ زيد بن محمد، فلن يلفت نظر أحد، فهو رجل يمشي مع ابنه.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-3


موت خديجة وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم


في هذا الجو من الأحزان والهموم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصيبة جديدة وهم جديد (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الابتلاءات التي من الممكن أن تحصل لإنسان من فقر وجوع، وضرب وتعذيب، وسخرية، وحروب وجهاد، ومن فقد للأم وللأب وللجد والعم، وفقد للأولاد وللأصحاب، وترك للديار كل الابتلاءات، وفي هذا الوقت مع كل الهموم التي يعيشها سيدخل في ابتلاء فقد الزوجة، السند العاطفي الجميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت السيدة العظيمة الجليلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

كانت خديجة نعمة من نعم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير متاع الدنيا له، كانت الصدر الحنون، والرأي الحكيم، قضت عشرة طويلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دامت (25) سنة، في كل هذه السنين لم تختلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تطلب منه شيئاً لنفسها، وعاشت تساعده بكل طاقتها، كانت كل سعادتها أن تراه سعيداً، فقد كان يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول في حب عميق: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها) بعد كل هذا الارتباط الوثيق أذن الله عز وجل بالرحيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ماتت خديجة رضي الله عنه وأرضاها.

موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، فالرجل مسكين بغير زوجته، وكلما طالت العشرة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالك لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض.

هذه من أشد المصائب التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)، يعني: أنها لم تقارن بنساء قريش أو حتى بنساء زمنها، بل بنساء العالمين، فهذه واحدة من أعظم أربع نساء في الخلق، درجة عالية من السمو.

هذه السيدة بهذا القدر وبهذه القيمة والمكانة فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركته بعد وفاة أبي طالب بأيام، وفي روايات قبل وفاة أبي طالب بأيام، أي: أن المصيبتين كانتا في وقت قريب، وخلفتا في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً كبيراً، وكان يحتاج إلى من يسمع منه مشاكله وهمومه ويتحدث معه، كان يقول لها: قريش عملت كذا وكذا! فتقول له: لا بأس فالله معك، وربنا سوف ينصرك، أو يجد ابتسامة تخفف من أحزانه.

كل هذه الأحداث تحصل وعمره خمسون سنة، وقد وهن العظم منه، وكثرت الهموم، وتشعّبت المشاكل، فليست القضية قضية موت أبي طالب ولا السيدة خديجة، ولا الإيذاء الذي يتعرض له من قريش.
إذا كان يحصل معه هكذا من قريش فأكيد أن المسلمين الآخرين سيحصل معهم هذا.
كما أنه كان يحمل هم المستضعفين ويشعر بهم ويخاف عليهم، ويحمل هم مشاكل المسلمين الذين كانوا في الحبشة أكثر من مائة معهم أولادهم، ولا يعلم شيئاً عن وضعهم.
هذه جميعها مشاكل وهموم جعلت ذلك العام يُطلق عليه بحق: عام الحزن.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-2


سنجد أن الدعوة ستظل كما هي؛ لأنها دعوة ربنا سبحانه وتعالى، ليست مرتبطة بموت إنسان ولا بحياته مهما كان هذا الإنسان. مات أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، وكان موته مأساوياً إلى أبعد درجة، ليس لأنه مات، وأنه كان ينصر الدعوة، ويحمي الرسول صلى الله عليه وسلم، لا؛ ولكن لأنه مات مشركاً كافراً، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه. في لحظة موته ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد أبا جهل عنده، قد سبق إليه ليتأكد أنه سيموت من غير أن يغير دينه القديم، ومن غير أن يترك هبل! دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي طالب يريد أن يدركه قبل أن يموت، فمنذ عشر سنين وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يرفض، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أنه لو مات كافراً فإن مصيره جهنم.

أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب والنصب يخلد في النار؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أي عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه سوف يقف يدافع عنه ويشفع له. وكان أبو جهل في قلق لموت أبي طالب ، ولو آمن فقد تؤمن قبيلة بني هاشم، ولو حصل هذا فمن الممكن أن تؤمن مكة، فأراد أن يستخدم كل إمكانياته وطاقاته ليعيش لقضيته تماماً.

قال أبو جهل: يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ كان أبو جهل يكره كل بني هاشم، وعاش عمره ينافسهم ويحاربهم، لكنه يلمس في أبي طالب التقاليد. أما أبو طالب فقد كان حيران بين أعظم الخلق وأبلغ البشر صلى الله عليه وسلم، وبين فرعون هذه الأمة وإمام الكفر أبي جهل لعنه الله، وفي الأخير كانت النتيجة بعد التفكير، وكان القرار قبل أن يموت أنه قال: هو على ملة عبد المطلب .

عبادة هبل واللات والعزى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. تخيل مدى الألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب عمه، ويرى بعينيه مدى الجهد الذي كان يقوم به، ومقدار خدمته للإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم في حزن شديد : (لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك)، كان يشعر أن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يقول له: لا تستغفر له، ونزل قول الله عز وجل: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) ]القصص:56[ (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )) ]التوبة:113[

بعد كل هذا العناء الذي لقيه أبو طالب ، وبعد الحصار في الشعب، وليل نهار مع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع منه، لكنه من أصحاب الجحيم؛ لأنه لم يقل كلمة واحدة وهي أثقل من كل أعمال بني آدم: لا إله إلا لله. في الحقيقة أن هذا الموقف مؤثر جداً، يجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى على أننا بفضله أصبحنا مسلمين، هناك الكثير من الناس الذين لا يقدرون قيمة هذه الكلمة التي يحملونها، كلمة: لا إله إلا الله.

بعد موت أبي طالب تغير الموقف تماماً في مكة، فـأبو طالب كانت له مكانة كبيرة في مكة، أيضاً وكان على دينهم، فقريش على كل الكراهية والعداء التي كانت تحمله للرسول صلى الله عليه وسلم لم تستطع فعل كل ما تريده، فقد كانت تهاب أبا طالب ، لكن الآن مات أبو طالب ، فتجرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب) مع كل الذي وقع قبل هذا إلا أنه يعتبره لا شيء قياساً لما وقع له بعد موت أبي طالب

يقول عبد الله بن مسعود : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان؟ -يعني: أمعاء الناقة ذبحت الآن- فيضعه على ظهر محمد صلى الله عليه وسلم إذا سجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، يقول عبد الله بن مسعود : وأنا أنظر لا أُغني شيئاً) 

لاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود رضي الله عنه، و عبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة، لن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم سيُقتل، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فجعلوا -أي: الكفار- يضحكون ويحيل بعضهم على بعض) يعني: يميل بعضهم على بعض من شدة فرحهم بالإنجاز الكبير الذي فعلوه (ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية صغيرة -كان عمرها عشر سنوات تقريباً- فطرحته عن ظهره، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش) ثلاث مرات،

تفاجأت قريش، فهذه أول مرة يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وهم يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وأن الدعاء بمكة مقبول، ثم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يسمي أشخاصاً يقول: (اللهم عليك بـأبي جهل وعليك بـعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و الوليد بن عتبة و أمية بن خلف و عقبة بن أبي معيط ، يقول عبد الله بن مسعود : وعد السابع فلم أحفظه)، وفي رواية أخرى أن السابع عمارة بن الوليد ،

قال عبد الله بن مسعود: (فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في قليب بدر) كل هؤلاء قُتلوا في بدر. تطور الموقف في مكة، ففي كل يوم مشكلة، الألم بدأ يزداد برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحزن في قلبه لا يفارقه؛ ليس لأن أبا طالب مات مشركاً، بل أيضاً لأن الكفار لم يتركوه .




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 11- عام الحزن-1


الدرس الحادي عشر عام الحزن


يختلف نمط الدعوات الإلهية عن البشرية في أن الأولى لا تعتمد في ديمومتها على فرد أو أفراد بحياتهم تحيا وبموتهم تتلاشى، فمع ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من أذى زاد بموت عمه وزوجه، إلا أن ذلك لم يثنه عن دعوته، بل ذهب إلى الطائف يدعوهم عشرة أيام، فرفضوا دعوته وسلطوا عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموه، ثم عاد إلى مكة هائماً على وجهه ليقابل ملك الجبال في قرن الثعالب، ثم يؤمن به الجن في وادي نخلة، ويواصل دعوته للحجيج، يبحث عمن يقبل الإسلام وينصر الدين.


موت أبي طالب وأثره 
على رسول الله صلى الله عليه وسلم



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في فترة مكة.


تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي عصفت بمكة عندما تجمع بنو عبد مناف لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحصار الاقتصادي البشع الذي قام به الكفار، وعن فك هذا الحصار، وخروج بني عبد مناف من الشعب في محرم من السنة العاشرة من البعثة النبوية.

بدأت السنة العاشرة بمرض أبي طالب الذي بلغ الثمانين من عمره، كما أن حصار الشعب لثلاث سنوات أكل فيها من ورق الشجر والجلود، بالإضافة إلى القلق، كل هذا أضعف من قوته ولم يتحمل، ولشدة مرضه كانوا يتوقعون له الموت في أي لحظة، وكان زعماء الكفر يخافون من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موت أبي طالب فتعيرهم العرب بأنهم استغلوا موته لإيذاء ابن أخيه.

أي: أنه كانت توجد بقايا حياء عند أهل الجاهلية؛ لذا ذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه في صراحة أن ينظر لهم أي حل مع محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وجمعوا لذلك وفداً مهيباً من (25) رجلاً، كان منهم أبو جهل وأبو سفيان وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم كثير، قالوا له: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت -أي أن لك مكانة كبيرة عندنا- وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك من الموت، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، وهذا تنازل جديد، وهو في الحقيقة عرض مغر من زعماء مكة، فقبل هذا كانوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم ليترك فكرة الإسلام، وفي هذا الوقت يطلبون منه أن يظل هو وأصحابه مسلمين، ونحن سنظل على ديننا، وليس لأحد دخل بالآخر، فهؤلاء وهؤلاء سيعيشون متجاورين ولا يؤذي بعضهم بعضاً، لكن في المقابل ألا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات قريش، وألا ينكر عليهم منكراً، وألا يأمرهم بمعروف، وألا ينصح أحداً بتطبيق أحكام الله عز وجل على عباد الله، أي: متى ما أرادوا الصلاة فليس هناك مانع، ومتى ما أرادوا الطواف بالكعبة ليس هناك مانع، لكن ليس لهم دخل في شئون مكة الدنيوية، بل يفصلون دينهم عن دنيا مكة.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم للتو خارجاً من الحصار الرهيب الذي امتد ثلاث سنين، والمسلمون وبنو عبد مناف منهكون، وأبو طالب سوف يموت، ونصف المسلمين مهاجر إلى الحبشة، أي: أن الوضع في مجمله ضعيف، والذي يرى هذا الوضع يعتقد أن هذه فرصة كبيرة للمسلمين.

أرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له في حضور المشركين: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فالرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه وقال: (يا عم! أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال أبو طالب: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم).

القرشيون ما كانوا يحلمون أبداً بوحدة العرب، وفوق هذا أيضاً العجم! هذا فوق حدود التخيل، أين هم من فارس والروم؟ كل هذا بكلمة؟ أبو جهل كان يظن نفسه ملكاً، والعرب كلها ستسمع كلامه، وأيضاً كسرى وقيصر، فوجد نفسه يقول: ما هي هذه الكلمة؟ اندفع في تهور كالعادة وقال: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه)، فـ أبو جهل والذين معه أُصيبوا بالذعر، أما زلت مُصراً على ما أنت عليه؟ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب! فهؤلاء الكفار عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، لها يتعبون ويسهرون ويحزنون ويتألمون، وبعد هذا ما هي النتيجة؟


النتيجة لكل هذا التعب والسهر والكد والعرق، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] هذه هي العيشة التي يعيشونها، اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات، فهم في حذر وترقب ورعب وهلع، لا يستطيعوا أن يطمئنوا ولا أن يناموا ولا حتى أن يستمتعوا بحياتهم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ومع هذا أيضاً {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] نسأل الله العافية.

أما الصحابة فقد قالوا هذه الكلمة، واستطاعوا فعلاً تجميع العرب تحت راية واحدة، وبعد أن انتهوا من العرب انتقلوا إلى غيرهم، فقد سقطت عروش كسرى وقيصر ..
وغيرهما من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، فُتحت بقاع مهولة بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بلا إله إلا الله، كل هذا حصل بلا إله إلا الله، كل هذا حصل بمنهج الإسلام، والذي لم يجعل لا إله إلا الله منهجه كان مصيره كمصير من كانوا في غزوة بدر، ذلة في الدنيا وذلة في الآخرة.


إذاً: المفاوضات فشلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقف ظل كما هو عليه لفترة في مكة، ثم دخل المسلمون في ابتلاء جديد، وحلقات متتابعة من الابتلاء والتمحيص، حياة كلها ابتلاء (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )) ] الملك: [2 كان أبو طالب أكثر من يساعد المسلمين، ولكيلا يظن أحد أن الدعوة معتمدة على إنسان معين مهما كان، لا بد أن هذا الإنسان يموت، وننظر ما الذي سوف يحصل للدعوة؟



السبت، 30 مارس 2013

سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-6


فك حصار الشعب

بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون.

بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم.

يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً.

يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً.
ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع.

المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه.

لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون.

لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش.
هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها.

كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس.

اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على نقض الصحيفة وحددوا اليوم، قال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، وقف زهير في المسجد ونادى على أهل مكة، ثم قال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

لم يسكت أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، فقام وقال بمنتهى الحماسة: كذبت والله لا تشق، فقام زمعة بن الأسود ، وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به، فقام المطعم بن عدي وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها، ثم قام هشام بن عمرو الذي جمعهم فقال نفس الكلام، وصدق المطالبون بنقض الصحيفة، فوجد أبو جهل نفسه محاصراً بآراء خمسة من الرجال، فقال: إن هذا أمر دبر بليل.

فإذا كان أبو جهل زعيم مكة ووراءه كثير من زعماء مكة، فالله سبحانه وتعالى قدر فك الحصار، فحدث شيء آخر تزامن مع هذه الأحداث، وأوحى الله عز وجل إلى نبيه أن الأرضة -دودة الأرض- قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله عز وجل. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بذلك الأمر، فأخذ أبو طالب الكلمات، وذهب إلى نادي قريش، فوجد المشكلة قائمة فتدخل في الحديث، وقال: إن ابن أخي قال كذا وكذا؛ فإن كان كاذباً وكانت الأرضة لم تأكل الصحيفة ولم تترك فيها إلا باسمك اللهم خلينا بينكم وبينه، تأخذونه وتقتلونه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.

فقال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب ، وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
آية واضحة لم يكن عند زعماء مكة أمامها أي اختيار سوى نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة، بعد ثلاث سنوات كاملة من الحصار والتجويع. لم يضع مجهود هشام بن عمرو مع أنه كافر وانتهى الحصار، ثم إن هشام بن عمرو أسلم بعد ذلك بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذه القصة.

وأيضاً زهير بن أبي أمية أسلم، أما الثلاثة الباقون فماتوا على الكفر. شاء الله عز وجل أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى ثلاث سنوات، وكان من الممكن أن يقع بعد فترة وجيزة جداً من الحصار كشهر أو اثنين أو ثلاثة، لكن لابد من التأخير، فقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة، وأعمق إيماناً، وأقوى تمسكاً بدينهم وعقيدتهم، لقد تم الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون.

لابد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، يقول الله تعالى: (( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ )) ]الرعد:17[، لابد أن يصهر المؤمنون في نار الابتلاء؛ للتنقية وللتربية وللتزكية، للتنقية من المنافقين والكاذبين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية وتطهير النفوس من الذنوب والخطايا؛ لذلك كان هناك حصار وهجرة للحبشة، وإيذاء وتعذيب..

كل هذه مراحل تربوية في غاية الأهمية صنعت جيلاً من الصحابة، يستطيع أن يلقى الأهوال ولا تلين له قناة، ولا تخور له عزيمة، ولا يهتز له قلب ولا عقل ولا جارحة. نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على طريق الإيمان، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) ]غافر:44[ وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-5


حصار الشعب

بعد هذا الانهيار الكامل للمباحثات بدا وكأن حدثاً كبيراً سيقع، كان أبو طالب يراقب الموقف، ويرى أن قريشاً لن تسكت على هذا الذي حدث، وكان يخشى أن أحداً من سفهاء قريش يتهور ويذهب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحبه أكثر من أولاده؛ لذا لم يجد إلا حلاً واحداً، قام أبو طالب بسرعة ودعا بني عبد مناف بشقيها بني هاشم وبني المطلب- المطلب هو عم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطلب منهم أن يجتمعوا لحماية محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب جميع القوم مسلمهم وكافرهم حمية وقبلية وطاعة لكبيرهم أبي طالب،


وبذلك انقسمت مكة إلى نصفين: بني عبد مناف في جهة، وبقية أهل مكة في جهة أخرى، وإذا كان أبو طالب يخاف من زعماء مكة، فأيضاً زعماء مكة يخافون من المسلمين، ولا قدرة لهم بهم بعد إسلام حمزة وعمر، فـ حمزة من فرسان قريش الأشداء، وعمر سفير مكة الرسمي، وبنو عبد مناف اتحدوا من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والطرق السلمية لم تعد تنفع، وفي نفس الوقت لا طاقة لهم بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني عبد مناف؛ لذا اجتمع كفار قريش من جديد وخرجوا بفكرة جديدة في حرب الدعوة وهي المقاطعة، سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، سياسة التجويع الجماعي لبني عبد مناف، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً.

ومع العلم أن هذا القانون الجديد يعتبر مخالفاً لأعراف مكة وقوانينها السابقة، لكن لا توجد مشكلة في أن يتغير الدستور، فكل شيء بأيديهم، فلا يهم الشهر الحرام ولا البلد الحرام، المهم المصالح فهي ما يقدم على الأعراف والقوانين، فلا مبدأ، ولا قانون ولا حتى عهد يُحترم.
كتبوا قانون المقاطعة، وفيه: على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ألا يناكحوهم.
أي: لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم.
وألا يبايعوهم.
أي: لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.
وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة؛ حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل.
هكذا بمنتهى الوضوح.

وبدأ تنفيذ الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتجمعوا كلهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحموه من أهل مكة.

ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والألم، فقد قطع الطعام تماماً عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي يأتي مكة من خارجها يشتريه الكفار بسعر عال؛ حتى لا تستطيع بنو عبد مناف شراءه، وأصبح الموقف صعباً، فقد أخذوا الأولاد والنساء في داخل الشعب؛ حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من الجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، وظلوا كذلك ثلاث سنين كاملة! من محرم في السنة السابعة من البعثة إلى المحرم سنة عشر من البعثة، مأساة بشرية حقيقية.

ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعي، صورة جاهلية تكررت كثيراً بعد ذلك في الدنيا، نعم اخترعها أهل قريش في ذلك الوقت، لكن للأسف حصلت كثيراً ودائماً مع المسلمين، تكررت في العراق وفي ليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين، كثير من المسلمين يحاصرون في بقاع الأرض.

ليس الغريب في هذا الحصار أن يضحي المسلمون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم؛ لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلاً أن يصبر الكافر من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل لا يؤمن بالبعث، ومع ذلك وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف، لكنهم وقفوا هذه الوقفة حمية، حمية الكرامة أن يهان رجل من نفس القبيلة، حمية الدم والقرابة، حمية العهد الذي قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا سوياً في حرب غيرهم، حمية واقعية ليست بالخطب والمقالات والأشعار، وضحوا بأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم من أجل كلمة.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-4


ردة فعل أهل مكة 
بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول



اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.

يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر.
فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة!

ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.

ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة.

ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة.

الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب.

وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها.


إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه.

وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا.

وهي أمور مغرية، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيختار، وهذا يمثل تنازلاً خطيراً من زعماء قريش، يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا على غير هوى المعظم، إلا أنهم وافقوا مضطرين، قالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه.

ذهب عتبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً لوحده بجانب البيت الحرام، فتلطف معه وابتسم وقعد وبدأ يتكلم، وكان ذكياً، وكلامه في عرف كل الناس لا يرفض، قال عتبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من الثقة في العشيرة، والمكان في النسب.
يعني: مكانتك عندنا كبيرة، ونحن نحبك ونحترمك، وهذه طريقة ثعبانية مشهورة عند عتبة وعند أمثال عتبة.

ثم بدأ يذكر مراده، فقال: ومع مكانتك العالية إلا أنك عملت أشياء تعتبر في عرف مكة جرائم عظمى، فأنت متهم بكذا وكذا وكذا، وهذا شيء خطير وموقفك صعب! قال له: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.

يعني: أنت متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فاترك الدين لأهله من الكهان وسدنة الأصنام، وإلا فإن مستقبلك في خطر، وأنت لك مكانة، وعندك أولاد، ونحن نريد مصلحتك ونحبك، ولأننا نحبك سنعرض عليك كذا وكذا من الاقتراحات فاختر منها ما يعجبك ونحن تحت أمرك.

إذاً: بهذه المقدمة الثعبانية يقدم له الاقتراحات المغرية، ويبين له أن رفضها معناه تأكيد هذه التهم الخطيرة في حقك، وأما عقابها فأنت تعلمه.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-3



عمر بعد الإسلام

ولد عمر من جديد، كما ولد حمزة عملاقاً، فإن عمر أيضاً ولد عملاقاً.
ولد عمر فقيهاً حازماً مضحياً، فأول كلمة قالها بعد الإسلام كانت: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟! وانتبه لما يقول: ألسنا على الحق؟ لا يقول: ألستم على الحق؟ فقد أصبح مسلماً، ويقترح عليهم آراء ويفكر لخدمة الدين، وينظر ما هو الأصلح، ويتحرك للدعوة، هذا هو عمر.

الاختفاء كما هو معلوم كان لأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحسب كل شيء بدقة، يأخذ بكل الأسباب، أما الآن فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد حساباته مرة أخرى؛ لأن الوضع تغير من ثلاثة أيام مضوا، إن كان للاختفاء مزايا قبل ذلك فللإعلان أيضاً مزايا، فإيمان حمزة وعمر غير الوضع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافق على الإعلان؛ لأن اثنين من رجال المسلمين غيرا مسار الدعوة بكاملها.
في هذه الفترة الحرجة سيبدأ إعلان الإسلام في مكة، ويظهر المسلمون الشعائر أمام الناس في مكة.

غير الرسول صلى الله عليه وسلم كل المرحلة عندما دخل حمزة وعمر في الدين، أخذوا القرار وخرجوا في نفس اللحظة في صفين: عمر على أحدهما، ولم يؤمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وما آمن إلا منذ ثلاثة أيام فقط.

سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية من دار الأرقم إلى المسجد الحرام أكثر الأماكن ازدحاماً في مكة، حتى يراهم أكبر عدد من قريش، رأت قريش المسلمين وأمامهم حمزة وعمر فأصابتهم كآبة شديدة، يقول عمر: (فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.
نظر عمر إلى المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل مع الناس، وهو أشدهم محاربة للإسلام، فقرر أن يذهب إليه في بيته، ويعلن له أمر إسلامه.

يقول عمر: فأتيته حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، فقال عمر: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به، قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، لكن عمر كان سعيداً؛ لأنه كاد لـ أبي جهل.

وكان عمر يرى أنه ما زال هناك كثر لم يعلموا بعد بأمر إسلامه، ولن يذهب إلى كل واحد في بيته يخبره، فذهب لرجل اسمه جميل بن معمر الجمحي، وهو كما يقول سيدنا عمر أنقل قريش لحديث.
يعني: مثل وكالات الأنباء، لا يستطيع حفظ السر، لا يسمع شيئاً إلا ونقله للناس، فذهب سيدنا عمر إليه، وقال له: يا جميل! لقد أسلمت، فنادى جميل بأعلى صوته قائلاً: إن ابن الخطاب قد صبأ، يعني: ارتد، لكن سيدنا عمر جرى وراءه، وقال له: كذبت ولكني أسلمت.
المهم أن كل مكة علمت أن عمر قد دخل في دين الإسلام، وهذا هو المطلوب.




سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-2


لحظات إسلام الفاروق

خرج عمر من بيته متوشحاً سيفه، خرج ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ظل يبحث في كل مكان عن الرسول وهو لا يدري أين يجلس، ودار الأرقم بن أبي الأرقم لم يكن يعرفها أحد، وفي أثناء بحثه قابله نعيم بن عبد الله رضي الله عنه، ولكن لم يكن أحد يعلم بإسلامه، وهو من نفس قبيلة عمر من بني عدي، وكان واضحاً من عمر أنه في قمة الغضب، فقال له نعيم: أين تريد؟ فقال له في منتهى الصرامة والجدية: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله!

كان نعيم رضي الله عنه يعلم أبعاد هذه الكلمات، ولا يوجد لديه وقت لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفكر كثيراً، ووجد نفسه مضطراً إلى كشف سر إسلام أخت عمر بن الخطاب السيدة فاطمة بنت الخطاب وإسلام زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، حتى وإن كان عمر سيقتلهما، ولكنه في المقابل سيجد الوقت الكافي ليبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ حذره.

فـ نعيم كان يظن أن هذا هو الحل الوحيد الذي قد يصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مراده؛ لأنه لو أخبره عن إسلام أي شخص آخر لن يهتم، ولكن إسلام أخته وزوجها شيء يطعن في كرامة عمر رضي الله عنه، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ يخوفه من بني عبد مناف، فربما تنفع، ثم قال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد.

فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟ فقال: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما.
فشعر عمر أن الدماء تغلي في قلبه، ونسي كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب مسرعاً إلى بيت أخته، وذهب نعيم مسرعاً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه.

في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن؛ فالرسول كان يقسم الصحابة إلى مجموعات، كل مجموعة تقوم بمدارسة القرآن مع بعضها، ثم يجتمعون كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وكان خباب بن الأرت هو المعلم لـ سعيد وزوجته.

وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوتهم وهم يقرءون القرآن، فظل يضرب الباب بكل قوته، ولو كان يستطيع كسره لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب.

وإذا كان عمر مرعباً في هدوئه فما بالك في غضبه، أما خباب فاختبأ في غرفة داخلية، وقال في نفسه: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن أنجو أنا، وخباب من الموالي ديته بسيطة، وعمر لن يفكر كثيراً قبل أن يقتله.
بعد اختباء خباب أصبح الدور على سعيد وفاطمة.

قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، قال عمر: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم بدأ يضرب سعيداً فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وترك سعيد بن زيد وبدأ يضربها حتى سالت الدماء على وجه فاطمة رضي الله عنه، لما رأى سعيد هذا الأمر لم يجد بداً من الهجوم على الأمر، وقال له في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!

استغرب عمر من شجاعة سعيد؛ فلا يوجد في مكة من يكلمه بهذه الطريقة، وأعجب من هذا أن فاطمة المرأة الضعيفة البسيطة وقفت وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر)، ذهل عمر.

من هذا الذي يتحدث؟ أليست هذه أخته؟ ما الذي جرأها عليه؟! أحس عمر على بأسه وشدته وسطوته أنه صغير لا يستطيع أن يقف أمامها، وشعر أن الدنيا تغيرت وهو لا يعلم، أول مرة يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته، ثم قال عمر كلمة تدل على رقة قلبه التي تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال: فاستحييت حين رأيت الدماء

الرجل الذي ليس فيه خير لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه، ووقفت أمامه وتحدته، وبالذات في هذه البيئة القبلية الجاهلية.

ماذا بعد الاستحياء؟ يقول عمر : فجلست ثم قلت: أروني هذا الكتاب حتى أقرأه، تنازل عمر وسكت عن تحدي سعيد و فاطمة ، ثم في هدوء يطلب أن يقرأ الكتاب الذي معهما، لكن فاطمة وجهت له ضربة ثانية موجعة لـعمر ، قالت: يا أخي! إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا الطاهر!

كنت أقرأ هذه القصة وأتصور أني سأجد خبر مقتل فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها، لكن الموقف كان غير ذلك، قام عمر في هدوء ليغتسل! أليس هذا هو عمر بن الخطاب ؟! هناك شيء غريب، فهذه ظروف ليس لها إلا تفسير واحد: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )) [القصص:56]، شاء الله عز وجل هداية عمر ، وشاء الله عز وجل الخير لـعمر وللمسلمين وللأرض بكاملها.

قام عمر ليغتسل في بيت أخته، وكأني بالماء ينزل على رأس وجسد عمر فيغسل كل أدران الكفر والجحود، لم يكن الماء يغسل من الخارج فقط، بل يغسل قلبه وعقله معاً.

لما خرج عمر من الاغتسال أعطته فاطمة الصحيفة وبدأ يقرأ، ولكن بدأ يقرأ بلسانه وبعقله، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أسماء طيبة طاهرة.
من أول البسملة ظهر الخير الذي في داخل عمر ، ثم قرأ: (( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى  )) [طه:1-2] ويلاحظ أن عمر ممن كان سبباً في إيجاد شقاء للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته، ثم هو الآن يقرأ قول الله عزوجل: (( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ))  ]طه:1-8 [

تزلزل عمر من داخله، ووجد نفسه خاشعاً متصدعاً من خشية الله عز وجل، يقول عمر : (فتعظمت هذه الآيات في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله. لقد أسلم عمر بمعنى الكلمة، أسلم لله إسلاماً كاملاً بكل ذرة في جسده رضي الله عنه، ووالله إن هذه اللحظة من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحول فيها رجل بسيط يسجد لصنم ويعذب المؤمنين إلى عملاق من عمالقة الإيمان، ورجل يراقب الله عز وجل في كل حركة وكل سكنة وكلمة وهمسة، ثمان آيات صنعت الأسطورة الإسلامية العجيبة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

عندما سمع خباب هذا الكلام من عمر خرج من مخبئه، وقال له: يا عمر ! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه؛ فإني سمعته بالأمس وهو يقول : (اللهم أيد الإسلام بـأبي الحكم بن هشام أو بـعمر بن الخطاب) فالله الله يا عمر ! كان يخاف أن يتراجع عن كلامه فهو يحمسه ويشجعه، ويذكر له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر عند ذلك.

فأين رسول الله؟ لم يقل: محمد، هكذا بكل سهولة يعترف برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال خباب : إنه في دار الأرقم . أخذ عمر سيفه فتوشحه ثم انطلق من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه في هذه المرة انطلق بقلب مؤمن، ضرب عمر الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة في دار الأرقم ، فقام أحد من الصحابة ينظر فوجد عمر وسيفه على صدره فعاد مرتعداً يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه.

كان داخل بيت الأرقم أربعين صحابياً، لكن الذي قام ليدافع عن كل الصحابة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، مع أنه لم يؤمن إلا من ثلاثة أيام فقط، لكن إيمانه كالجبال.
قال حمزة في صلابة: وإن كان عمر ، افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيراً بذلناه له -يعني: إن كان يريد الإسلام- وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه.

الله أكبر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له)، دخل عمر ثم أدخلوه إلى غرفة في الدار، ثم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه واقترب منه، وأخذ بمجامع ثيابه وقال له في قوة: (ما جاء بك يا بن الخطاب ، فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة)
كلمة تعبر عن مدى المعاناة التي كان يلاقيها المسلمون من عمر ، لكن عمر الآن ليس كـعمر الأول، قال بصوت منخفض: (يا رسول الله! جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله)

كان هذا يمثل انتصاراً هائلاً للدعوة، وبالذات بعد دخول حمزة رضي الله عنه وأرضاه في دين الله عز وجل، كانت الفرحة في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لا توصف، أول رد فعل للرسول أن كبر الله عز وجل؛ فهو الذي صنع هذه المعجزة وأتى بـعمر إلى هذه الدار، فلما علم الصحابة دخلوا عليه يهنئونه، كل العداوة القديمة انتهت، وحل محلها الحب والمودة .



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 10- إسلام عمر-1


الدرس العاشر إسلام عمر


ليست الهداية أمراً يمتلكه البشر، حتى الرسل، ولكنها شيء بيد الله تعالى، وذلك ما يتجلى في إسلام رجل شديد على المؤمنين قبل إسلامه كعمر بن الخطاب، وقد كان إسلامه مع حمزة رضي الله عنهما نصراً للمسلمين، مكنهم من الجهر بدينهم، والوقوف موقف الند ممن كان يضطهدهم ويعذبهم، وذلك مما حدا بأهل مكة إلى اتخاذ قرار حصار الشعب بصحيفة ظالمة علقت في جوف الكعبة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات لم تضعف للمؤمنين فيه عزيمة، بل ازدادوا صلابة وشدة في دين الله.



عمر قبل الإسلام

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية.


تكلمنا من قبل عن الهجرة الثانية إلى الحبشة، وعن استقرار المسلمين فيها، وعن الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون على عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أمام النجاشي رضي الله عنهم.
ثم ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وكيف كان إيمانه إضافة عظيمة للصف المسلم، ثم بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن رجل آخر، آمن عظيم سيغير الله عز وجل به وجه الأرض وحركة التاريخ، وسيزلزل به عروش ملوك الأرض في زمانه كسرى وقيصر وغيرهما، هذا المؤمن الجديد هو عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.

منذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر لحظات حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو فاروق.
كانت قصة إسلامه أعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، فـ حمزة رضي الله عنه خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة للمؤمنين لا معهم ولا عليهم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان تاريخه مع المسلمين كله قسوة وعنفاً.

كان عمر مثل حمزة رجل مغمور في التاريخ ككل رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له سفارة قريش، كان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن في النهاية ما هي قبيلة بني عدي، وما هي مكة بالنسبة للعالم قبل الإسلام؟ ما هي مكة بالنسبة لفارس والروم والحبشة ومصر والصين والهند؟ مجموعة من القبائل البدوية البسيطة تعيش وسط الصحراء على الرعي والتجارة وبيع الأصنام.

هؤلاء هم أهل مكة قبل الإسلام، وكان عمر مثله مثل آلاف أو ملايين أو بلايين الرجال الذين مروا في التاريخ الذين لم يسمع بهم أحد قبل ذلك ولا بعد.
وعمر فوق ذلك كله كانت فيه قسوة على المسلمين قبل إسلامه، كان يعذب جارية له أسلمت من أول النهار إلى آخره، ويقول: والله ما تركتها إلا ملالة.
يعني: ضجرت من كثرة الضرب والتعذيب.

شعرت زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنها برقة في كلام عمر، لما رآها تجهز نفسها لهجرة الحبشة الأولى، قال لها كلمة رقيقة، قال لها: صحبكما الله.
وهي غير معتادة منه على هذه الرقة، فقالت لزوجها في ذلك، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت -يعني: عمر بن الخطاب - حتى يسلم حمار الخطاب، يأس كامل في إسلام عمر.
يرى عامر أن فرصة إسلام حمار الخطاب أكبر من فرصة إسلام عمر، إلا أن نظرة المرأة كانت أدق من نظرة الرجل، ورأت بقلبها ما لم يره زوجها بعقله.

كان عمر يعيش في صراع نفسي بين أن يكون زعيماً قائداً في مكة، وبين أن يكون تابعاً لأمر هذا الدين، فقلبه يقول له: لعل هؤلاء على الحق، فرئيسهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم تكن حوله أي شبهات، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لكن عقله يقول له: أنت سفير قريش وقائد من قوادها، والإسلام سيضيع عليك كل هذا،


قسم الإسلام مكة نصفين: نصفاً يؤمن به، والنصف الثاني يحاربه، ومنذ ستة أعوام ونحن في صراع وخلافات ومناظرات ومحاورات، وقد عشنا مئات السنين نعبد الآلهة دون اعتراض من أحد أو تخطئة، فلماذا محمد صلى الله عليه وسلم تجرأ وخطأنا؟ صراع شديد يدور في نفس عمر، فقلبه في طريق وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء كثر في مكة، وكلهم يزينون له المنكر، في النهاية شعر بكراهية شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، فقد عاش عمر لا يعرف التردد، وهو الآن يريد أن يخلص نفسه ومكة من الرجل الذي كان سبباً في كل هذه المشاكل، أراد أن يحسم القضية كطبعه دائماً؛ لذا قرر أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل الذي فكرت فيه قريش ولم تستطع فعله، أتى القرار في ذهنه في لحظة، ومحاولة التنفيذ كانت في اللحظة الثانية مباشرة.

وكان مما زاد الأمر حماسة أن أبا جهل من يومين فُضح فضيحة غير مسبوقة في مكة، والذي فضحه حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة يدعي بأنه قد أصبح على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل خال عمر بن الخطاب.
فهذه المشاكل كلها بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر أصيب في كرامته كما أصيب أبو جهل، ورد الاعتبار يكون عادة في هذه البيئة بالسيف.
كل هذا جعله يرى لزاماً عليه أن يتخلص من محمد صلى الله عليه وسلم .



سلسلة السيرة النبوية د/ راغب السرجاني 9- هجرة الحبشة الثانية-6


إسلام حمزة - رضي الله عنه -

وقع حدث مهم ما بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان سبباً في تغيير كبير في مسار الدعوة، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بثلاثة أيام فقط، وذلك في أواخر السنة السادسة من النبوة {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

نبدأ بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ لأنه كان الأسبق: كان حمزة بن عبد المطلب فارساً من فرسان قريش الأشداء، كان من أقواهم شكيمة رضي الله عنه وأرضاه، وفي يوم من الأيام -وكان ما يزال كافراً- خرج إلى الصيد، 

وفي هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً وحيداً عند الصفا، وكانت بعيدة قليلاً عن بيوت مكة، فتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سباً قبيحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت لم يرد عليه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وهذا ليس أي جاهل، بل هو أبو جهل نفسه، ولم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، فأخذ حجراً ورماه في رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فسالت الدماء من رأسه!

فذهب أبو جهل فرحاً بعمله، ويظن أنه لم يره أحد، لكن الله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام له تدبير عجيب، فقد سخر الله عز وجل مولاة لـ عبد الله بن جدعان رأت الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل، فلما أتى حمزة بن عبد المطلب وقفت الجارية تقص عليه الحادث.

الجارية كافرة ومولاها كافر، والذي تحكي له كافر، لكن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
قالت الجارية: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد.
فأثارت الحمية في قلب حمزة رضي الله عنه، خصوصاً عندما زادت كلمة (ابن أخيك).

قالت: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه.

انصرف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد أحد يدافع عنه، فقد كان الوحيد في أعمامه الذي يدافع عنه أبو طالب، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ كان من أشد المحاربين له.

أين العباس وحمزة؟ لا يوجد أحد مشغول برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد فيهم متذكر لـ عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم، يا ترى لو كان حياً هل سيكون الموقف مثل هذا؟ أين بنو هاشم؟ وأين بنو عبد مناف؟ أبو جهل زعيم بني مخزوم يضرب أشرف شرفاء بني هاشم على الإطلاق، بل أشرف إنسان في الأرض.

عندها تجمعت المشاعر في قلب حمزة مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمداً لهم، مشاعر القبلية الهاشمية القرشية الشريفة، مشاعر الغيظ من زعيم بني مخزوم، مشاعر النخوة والنصرة للمظلوم، مشاعر الإحراج أمام شباب وفرسان مكة، مشاعر كثيرة جعلت الدم يغلي في قلب حمزة.

ذهب حمزة مسرعاً إلى أبي جهل، فعرف أنه في المسجد الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحد على معارضته، حتى وقف أمامه، ثم رفع قوسه وضرب رأس أبي جهل ضربة شجت رأسه وتفجر منها الدم، قصاص ضربة بضربة، ودماء بدماء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب بعيداً عن الناس فقد ضربه بين الناس في المسجد الحرام، فضيحة بكل المقاييس.

هذا الرد في عرف الناس يشفي الغليل، لكن حمزة ما زال لم يشف غليله، ما زال يريد أن يغيظه أكثر، ولو قتله ستنشب حرب هائلة في مكة بين بني هاشم وبني مخزوم، ولكنه فكر في أشد ما يغيظ أبا جهل، إنه الدين الجديد الإسلام، فاندفع حمزة دون تفكير وقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت، يريد أن يغيظه بكل طاقته، لم يفكر في عواقب هذه الكلمة الخطيرة، المهم في هذا الوقت أن أبا جهل يذل وسط الناس.

كان أبو جهل غارقاً في فضيحته، ولم يعد يعرف بم يفكر، وحمزة أمامه يقول بأنه قد أسلم، فقام رجال من بني مخزوم لينتصروا لـ أبي جهل، لكن أبا جهل كان يخشى من ذلك، فقال في ذلة شديدة: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.

جلس حمزة بعد هذا مع نفسه، أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟ أبهذه السهولة يقول في لحظة واحدة الكلمة التي رفض أن يقولها في سنوات مضت، يسمع فيها عن الإسلام، ويسمع القرآن ولم يؤمن ست سنوات في مكة لم تنقل حمزة من الكفر إلى الإيمان، بينما نقله هذا الحادث الواحد غير المقصود في عرف الناس

لكن احفظوا هذه الجملة: الظلم الشديد إذا تفاقم وازداد أعقبه نصر من الله عز وجل

لا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصراً للدعوة، ولو كان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً لم يكن ليلفت نظر حمزة ، لكن شدة الأذى حركت القوى في قلب حمزة التي لم تتحرك من ست سنوات، انظر إلى تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، كيف يمكن أن يخلق من وسط الظلم عدل، من الاضطهاد والقهر والبطش نصر للدعوة، لو كان أبو جهل يعرف أن كل هذا سيحصل لم يكن ليضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ]الأنفال:30[ .

ولك أن تتصور موقف الصحابة في الساعة التي ضرب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في الساعة التي آمن فيها حمزة رضي الله عنه وأرضاه! إن هذه رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصراً عظيماً للدعوة، هذا الوضع في مكة، وفي تاريخ الدعوة كلها قبل الرسول وبعد الرسول وإلى يوم القيامة، إذا تفاقم الظلم ولّد نصراً للإسلام وللمسلمين

عاد حمزة إلى بيته يفكر في الكلمة التي قالها هو كرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يقول كلمة ثم يعود فيها، وهو في ذات الوقت كرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها، صراع ضخم! 

فلجأ إلى الله عز وجل، والعرب بصفة عامة كانت تؤمن بالله وبحكمته وبعظمته وبقوته، لكنهم كانوا يحكمون غيره في حياتهم، هذه هي مشكلتهم، لكن حمزة في هذا الوقت في موقف صعب محتاج لربه سبحانه وتعالى، وهو يعرف أن الله موجود ويسمعه، لكن ما الصحيح في الأمر؟ هل أعبد الله على طريقة الأجداد واللات والعزى وهبل، أم على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم؟

وقف يدعو ربنا وقال في دعائه: اللهم ما صنعت إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً. صنع شيئاً أشبه ما يكون بصلاة الاستخارة، فألقى الله سبحانه وتعالى في نفسه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وقال له: يا بن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أدري ما المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أهو رشد أم غي شديد؛ فحدثني حديثاً فقد اشتهيت يا بن أخي أن تحدثني.

فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، قرأ عليه نفس القرآن، أقبل عليه الرسول فذكره كما كان يذكره، الكلام نفس الكلام، لكن الوعاء المستقبل - حمزة - قد اختلف. 

لحظة هداية من ربنا سبحانه وتعالى يختارها بحكمة، في لحظة واحدة دخل الإيمان الحقيقي على قلب حمزة رضي الله عنه وأرضاه، سمع الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بصدق من ساعته، قال حمزة رضي الله عنه وأرضاه بصدق: أشهد أنك الصادق، فأظهر يا بن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وإني على ديني الأول

في لحظة واحدة أصبحت الدنيا في عين حمزة لا تساوي شيئاً، لا يتمنى أن يمتلك الدنيا كلها في مقابل دينه الجديد الإسلام، وأصبح حمزة أسد الله عز وجل

انظروا إلى النقلة الهائلة الضخمة التي نقلها الإسلام لـحمزة رضي الله عنه وأرضاه، من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للأكل والنوم، نقله الإسلام إلى رجل يصبح همه أن يعبِّد الناس كل الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، وأن يظهر الإسلام في مكة وفي غيرها، وأن يحمي المستضعفين، ترقى في القدر من كونه سيداً لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخارطة في فترة قصيرة من عمر الدنيا لا تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيداً للشهداء في الجنة على مر التاريخ إلى يوم القيامة

من أراد أن يعرف قيمة الإسلام فلينظر إلى حمزة قبل الإسلام وبعد الإسلام. الإسلام هو الذي صنع حمزة و الصديق و عثمان و عمر و علياً ، وكل الجيل العظيم، وهو الذي يصنع غيرهم على مر التاريخ، إذا كنا نريد رجالاً مثل حمزة فلابد أن نأخذ الإسلام كما أخذه حمزة رضي الله عنه، ونعيشه كما عاشه حمزة وعاشه كل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم

هذه كانت قصة إسلام حمزة رضي الله عنه وأرضاه، سيد الشهداء وفارس المسلمين رضي الله عنه. سنتعرف على قصة إسلام أعجوبة الإسلام، وأسطورة التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، ونسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) ]غافر:44[ وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.